أعترف للقارئ بأنى من أقل الناس حبا للتليفزيون. عندما عدت من البعثة فى منتصف الستينيات كان عمر التليفزيون فى مصر أربعة أو خمسة أعوام، ولكنى كنت، فيما أظن، من أواخر من اقتنى جهاز التليفزيون من المصريين. وحدث هذا أيضا فيما يتعلق باستبدال التليفزيون الملون بالأبيض والأسود.
كنت مغرما ببعض البرامج التليفزيونية القليلة، أثناء سنوات البعثة بانجلترا، بل كنت أحيانا أعود إلى البيت مبكرا من أجلها، ولكنى لم أكن ممن يتنقلون من برنامج لآخر دون وعى، ولا من عشاق المسلسلات التليفزيونية أيا كان نوعها.
انى استطيع ان أفسر هذا الموقف وان أدافع عنه، ولكن ليس هذا هو ما أريد الكلام عنه الآن. هدفى الآن أن أصف شعورى وما يخطر لى من أفكار عندما أشاهد بعض الحوارات السياسية فى التليفزيون المصرى، التى زادت بشدة منذ ثورة يناير 2011، وألاحظ ما يعرض خلالها من إعلانات عن مختلف السلع.
تساءلت أولا، بينى وبين نفسى، عما يمكن ان يخطر بذهن أى شخص لم يتعود على هذه الظاهرة بعد، وشاهد لأول مرة على شاشة التليفزيون هذه الوجوه الجادة جدا، وهى تناقش موضوعات فى غاية الأهمية (وأحيانا أحداثا مأساوية)، ثم ينقطع الكلام فجأة بتدخل من المذيع الذى يدير النقاش، ليقول لمشاهدى البرنامج ان الحوار سوف يعود (بعد الفاصل) أو (بعد استراحة إعلانية)، ويحاول ان يستبقى المشاهدين حتى لا ينصرفوا عن الحوار، فيغريهم بأن الحوار سيتطرق بعد الفاصل الإعلانى إلى مناقشة موضوع مهم أو الإجابة عن سؤال تشوقهم معرفة الإجابة عليه.
عندما سألت نفسى عما يزعجنى فى هذا بالضبط، خطرت لى عدة أمور. هناك أولا عدم وجود أى علاقة بين موضوع الحوار وموضوع الإعلانات. فالحوار قد يكون مثلا عن قضية مصيرية، كحالة الأمن، أو سقوط أعداد كبيرة من القتلى فى اشتباك بين جماعات إرهابية وبين الشرطة، أو عن تهديد الرئيس الأمريكى بضرب سوريا بالقنابل، بينما يحتوى الفاصل الإعلانى على كلام عن اللذة التى يجلبها صنف جديد من البطاطس، أو مشروب من المشروبات الغازية، أو عن قدرة مسحوق معين من الصابون على إزالة البقع من الملابس. بدا لى ان مطالبة المشاهد بأن ينتقل بهذه السرعة من التفكير فى تلك الموضوعات الخطيرة إلى التفكير فى السلع المعلن عنها، فيها شيء من الاستهانة بالمشاهد والعبث بعقله، فضلا عما فيه من إهانة للمشاركين فى الحوار.
أضف إلى ذلك ما تتضمنه الإعلانات من خداع وكذب على المشاهدين، بأن تزعم وجود صفات فى السلع المعلن عنها، ليست حقيقية، وبأن تعتمد فى تضليل المشاهدين على إثارة عواطف وأفكار لا علاقة لها البتة بطبيعة هذه السلع، كالاعتماد على الإثارة الجنسية للإعلان عن مشروب من المشروبات الغازية، بتصوير الزجاجة إلى جوار امرأة جميلة وجذابة، أو كاستغلال ضعف المشاهد إزاء العلاقات العائلية الحميمة لتسويق صنف جديد من السمن أو الزيت...الخ.
قد يعامل كثير من المشاهدين هذه الوسائل المستخدمة فى الإعلان وكأنها مجرد نكت سخيفة، أو مجرد مناظر مسلية لا ضرر منها، ولكنى أرى أن الأمر جانبا أكثر جدية من هذا بكثير. لقد لاحظت بعد ان تكررت مشاهدتى لهذه (الفواصل أو الاستراحات) رغما عنى، ان استمرار تعرضى لها، كل بضع دقائق، وقطعها للحوارات فى مواضع قد يكون المشاهد مستغرقا فيها، إلى درجة أن الإعلانات قد تستمر فترة أطول من الفترة التى يستغرقها الحوار نفسه، كل هذا أصبح يترك فى نفسى شعورا بالمرارة لم أجد له تفسيرا غير هذه الفواصل.
أضف إلى هذا ما يعرفه الجميع عن أهمية هذه الإعلانات كمصدر رزق لأصحاب القنوات الفضائية، وللمذيعين والمذيعات المشهورين، حتى كادت تصبح (أو أصبحت بالفعل) الهدف الأساسى من إنشاء هذه القنوات أصلا، فأصبحت الحوارات السياسية مجرد وسيلة لجلب الإعلانات بدلا من أن تكون الإعلانات مجرد «فواصل» أو «استراحات»، فقد أصبحت الحوارات هى الفواصل أو الاستراحات خلال سيل مستمر من الإعلانات.
•••
تذكرت ما قرأته منذ فترة طويلة فى كتاب لمفكر اشتراكى بريطانى (اسم الكتاب: مجتمع الاستحواز، والمؤلف ريتشارد تونى R. Tqwaney وصدر فى 1926) من ان الاعتراف بضرورة نظام السوق لسير الحياة الاقتصادية، لا ينفى فى رأيه أن هناك من الخدمات ما لا يجب أبدا ان تكون محلا للبيع والشراء. مما ذكره من بين هذه الخدمات خدمة الطب وخدمة المحاماة، إذ أن دخول البيع والشراء فى تبادل هذه الخدمات لابد أن يفسدها. قلت لنفسى: أليس التعليم أيضا من بين هذه الخدمات؟ والآن: هل نضيف أيضا الحوارات السياسية على شاشة التليفزيون؟
تذكرت أيضا كتابا جميلا ظهر فى العام الماضى لأستاذ للفلسفة السياسية بجامعة هارفارد، اسمه (مايكل ساندل M. Sandel) والكتاب يحمل عنوانا جذابا هو (ما الذى لا تستطيع شراءه بالنقود؟)، ولكن الكتاب كله يقول العكس بالضبط وهو: انه فى حياتنا الحديثة أصبح من الصعب جدا ان تجد شيئا لا يمكن شراؤه بالنقود، وأن الأمر قد زاد سوءا بشكل فاضح خلال الثلاثين أو الأربعين عاما الماضية. ففى كل يوم جديد تجد شيئا جديدا، لم يكن من المتصور أن يشترى بالمال، أصبح محلا للبيع والشراء.
اعتقد ان زيادة حالات الفساد، حتى فى أكثر البلاد تحضرا، هى نتيجة أو مظهر من مظاهر هذا التطور فرأينا رؤساء للحكومات يشتغلون بمجرد خروجهم من الحكم كمستشارين لشركات كبيرة، لا تريد إلا استغلال اسمائهم لزيادة الأرباح (كاشتغال مسز تاتشر مستشارة لشركة فيليب موريس للسجائر بعد تركها لرئاسة الوزارة فى بريطانيا)، بالإضافة إلى انهماكهم بعد ترك السلطة فى تكوين الثروات من وراء نشر مذكراتهم أو إلقاء محاضرات...الخ. والذى يفعل هذا بعد ترك السلطة لابد أن يكون مستعدا للتمهيد لذلك خلال وجوده فى السلطة.
هناك من لا يزالون يقاومون هذا التيار الكاسح، ولكنهم آخذون فى التقهقر للأسف (من هؤلاء مثلا: هيئة الإذاعة البريطانية، والمدافعون عن بقاء خدمة الطب بعيدا عن متناول يد الشركات الهادفة للربح، وكذلك المدافعون عن استمرار الدولة فى تقديم بعض الخدمات الثقافية دون اعتبار لدافع الربح).
قلت لنفسى إن زحف الإعلانات على حواراتنا التليفزيونية لابد أن يفسدها، كما يفسد زحف دافع الربح مختلف جوانب الحياة فى بلادنا وخارجها، ولابد أن لهذا الأمر علاقة بنفورى من جهاز التليفزيون بوجه عام.