عواصف الخريف بين الأدب والسياسة! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأحد 20 أكتوبر 2024 2:50 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عواصف الخريف بين الأدب والسياسة!

نشر فى : السبت 19 أكتوبر 2024 - 7:55 م | آخر تحديث : السبت 19 أكتوبر 2024 - 7:55 م

(1)
و«أكتوبر» هو الشهر الذى صدر فيه للمرة الأولى كتاب «خريف الغضب» للكاتب والصحفى الراحل محمد حسنين هيكل، فى نسخته العربية (1984)، فأثار ما أثار وأشعل الجدل والمعارك حول الكتاب وصاحبه!
وبسبب هذا الكتاب وما أثاره، دارت مراسلات أظنها الآن تمثل وثائق فكرية عظيمة القيمة فضلًا على صياغتها الأدبية الرائعة بين كبيرين، أحدهما تربع على عرش الصحافة المصرية والعربية لأكثر من خمسين سنة، وعُرف بإيمانه الذى لازمه طوال حياته بالقومية العربية، والدفاع عن مبادئها والترويج لها.
والآخر أحد أضلاع مربع الرواد الكبار فى الثقافة العربية الحديثة، وصاحب الروائع المسرحية والروائية والقصصية فى الأدب العربى الحديث.. فماذا جرى بين الاثنين؟ ولماذا دونت هذه المراسلات؟ وما محتواها؟

(2)
فى النصف الأول من الثمانينيات، كتب توفيق الحكيم عدة مقالات فى (الأهرام) أطلق عليها «أحاديث مع الله»، يتوجه فيها بخطاب مباشر إلى الله (سبحانه وتعالى)، يبثه شكواه ونجواه، ويتحدث إليه حديثًا حارًّا مفعمًا بالصدق والمشاعر.
ومع أنها، كما يقول عنها صاحبها «لم تخرج عن كونها نوعًا من المناجاة مع الله تعالى؛ مناجاة بلغتى الخاصة وثقافتى الخاصة، تعبيرًا عن حبى الخالص لربى»، فلم يكن لهذا الأمر، فى تلك الفترة، أن يمر دونما أن يثير العواصف والزوابع، خصوصًا فى السياق الذى شهد ارتفاع المد الدينى، ونشاط جماعات الإسلام السياسى فى مصر، آنذاك، فقامت الدنيا ولم تقعد، وثارت ثائرة المشايخ والوعاظ الذين اتهموا توفيق الحكيم بالضلال والتجديف بل الخرف! وتصدى للحكيم أكثر من واحد منهم للرد عليه، أشهرهم كان الشيخ الشعراوى.
لم يتأنِ أحد لفهم الخطاب المكتوب ولا سياقه ولا ظروف كتابته.. كان الرجل كبيرًا يقترب من التسعين، لا سلوى له إلا الكتابة!

(3)
فى تلك الفترة أيضًا، نشر محمد حسنين هيكل النسخة العربية من كتابه «خريف الغضب»؛ الذى نشر قبل ذلك بسنوات بالإنجليزية، وقرئ فى كل مكان فى العالم، ما عدا مصر!
وأثار الكتاب جدلًا كبيرًا، وتعرض هيكل بسببه لحملات عنيفة من مؤيدى الرئيس الراحل أنور السادات، وقارن البعض بين «خريف الغضب» لهيكل، وكتاب توفيق الحكيم «عودة الوعى» الذى نشره عقب وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
وقد نص المرحوم هيكل فى نهاية مقدمته لـ«خريف الغضب» على أنه أضاف إلى نصوص الكتاب ملحقًا يضم رسالتين متبادلتين بين الأديب الكبير «توفيق الحكيم» وبينه؛ يقول: «رأى ذلك الصديق الكبير، نصحًا وحرصًا، مع بداية الضجة التى رافقت الإصدار الأول من الكتاب، أن يبعث إليّ برسالة. ورأيت، محبة له واحترامًا، أن أرد عليه، واستأذنته فى نشر الرسالتين، وكريمًا أَذِنَ، وجرى الإعلان عن ذلك فى وقته وأوانه، وتم نشر الرسالتين فعلا فى الطبعات العربية».
المهم أن توفيق الحكيم، وقد أراد أن يهون على هيكل بعض الأذى جراء الهجوم العنيف عليه، وجه له رسالةً أراها من أهم وأجمل، بل أبدع ما كتب توفيق الحكيم، فيما يمكن أن نسميه «أدب الرسائل»؛ وقد رد عليه هيكل برسالة لا تقل روعة ولا إحكامًا فى منطقها ولغتها وفنيتها (وربما نتعرض لها بالتحليل والعرض فى سياق آخر).

(4)
صحيح أن الحكيم قد أراد أن يبرر ضمنيا موقفه من جمال عبدالناصر الذى هاجمه بعد وفاته فى «عودة الوعى»، ويوازى بين موقفه (أى موقف الحكيم من عبدالناصر)، وموقف هيكل من السادات، لكن الرسالة كشفت -بالأساس- عن حس إنسانى غاية فى الرهافة، ولقد فوجئت أنا شخصيًا بشحنتها الإنسانية الجارفة، لقد هزتنى سطوره بعنف، وجعلتنى أتعاطف مع شيخ كبير لم يرحم شيخوخته أحد، ولم يأسَ على حاله أحد، وتعرض لإهانات وسفاهات لا قِبل لأحد بتحملها فى عنفوانه، فما بالك بشيخ فى العقد التاسع من عمره، كتب توفيق الحكيم:
«وإنى أكتب إليك اليوم كى أهدئ من أعصابك بدافع هذه المودة والمحبة. وأنا بالذات لسبب واحد هو: إن حالتى تشبه حالتك. فأنت كتبت كتابًا هو «خريف الغضب» اعتبر هجومًا ضد السادات بعد موته. وأنا كتبت كتابًا هو «عودة الوعى» اعتبر هجومًا على عبدالناصر بعد موته.
واليوم أيضًا تقوم ضدى القيامة لكتابة أخرى: قيل إنها ضد الله تعالى.. فأنا الآن فى وحدتى التى تعرفها: زوجة ولا ولد، أعيش مع الله وأناجيه، فقالوا إن هذه المناجاة ضلال وإخلال وطردونى من جنة الله، وانهالت علىّ خطابات الغوغاء، وحتى بعض العقلاء تترحم على عقلى الذى ذهب، والتخريف الذى جاء مع الشيخوخة.. كل الذى يهمنى بالنسبة لك ولى هو عدم احترام «الرأى الحر».. فاكتب رأيك، ولأكتب أنا رأيى.. وليس من الضرورى أن يعجبنى رأيك أو يعجبك رأيى.. المهم أن يوجد الرأيان. والأهم أن يكون المجتمع خاليًا من السلطة الواحدة المسيطرة برأى واحد فى إمكانه إسكات كل صوت غيره.