أعلن رئيس وزراء قطر الأربعاء ١٥ يناير قبول إسرائيل وحماس مشروع اتفاق لوقف إطلاق النار بغزة والإفراج عن رهائن محتجزين لدى الجانبين، على أساس دخوله حيز النفاذ، الأحد، ١٨ من الشهر، ومن اللحظات الأولى والأطراف تتبادل الاتهامات بالمماطلة.
أرحب بالاتفاق من منطلق إنسانى، إزاء التضحيات الضخمة لشعب غزة الباسل، والمعاناة الطويلة للمحتجزين الفلسطينيين فى السجون الإسرائيلية، والتشريد الجارف المهجرين بالقطاع، وحتى بالنسبة لأهل المختطفين من المدنيين الإسرائيليين وغيرهم، مع تمسكى دومًا بالتفرقة بين المحتل ودولة الاحتلال.
وإذا نفذ الاتفاق كاملًا فسينهى الحرب الآنية فى غزة، ويفرج عما يقرب من ١٠٠ مختطف لدى الفلسطينيين مقابل حوالى ١٠٠٠ من المحتجزين الفلسطينيين لدى إسرائيل، وينتظر تنفيذ الاتفاق على ثلاثة مراحل، من حيث تبادل الأسرى والمختطفين، وعودة النازحين وزيادة المساعدات الإنسانية، وانسحاب القوات الإسرائيلية إلى مناطق محددة، علمًا بأن التفاوض حول تفاصيل المرحلة الثانية والثالثة تبدأ اعتبارًا من اليوم السادس عشر فى المرحلة الأولى، وذلك يعنى أن الاتفاق المعلن عنه الآن هو خطوة مرحلية تهدف إلى حل نزاع غزة، وإنما لا يرتفع إلى مستوى الحل الكامل التفصيلى الناجز للوضع المتأزم.
وفى إطار تقييم الاتفاق ذاته، يجب، بادئ ذى بدء، التنويه أن الاتفاق إذا نفذ سيؤدى إلى وقف الاقتتال المرتبط بأحداث غزة فى أكتوبر ٢٠٢٣ وما بعدها، وهذا أمر مفيد، إنما لا ينهى النزاع الفلسطينى الإسرائيلى، لذا سنشهد المزيد من المعارك والعنف والعنف المضاد، لأن الشعب الفلسطينى الذى لا يزال تحت الاحتلال فى الضفة والقطاع، متمسك بهويته الوطنية، وإسرائيل تعرقل تقرير مصيره وتتمادى فى الاحتلال واستخدام العنف.
يجب تجنب التفاؤل المبالغ فيه وغير المبرر أو التشاؤم الذى يغفل أن وقف إطلاق النار ورفع المعاناة خطوة ضرورية حتى إذا لم تكن كافية. ويمكن استخلاص التقييم السليم للإيجابيات والمخاطر المحتملة من مراجعة دوافع الأطراف للتوصل إلى اتفاق الآن، رغم أن عناصره مطروحة منذ شهر مايو الماضى، فى سياق أفكار أمريكية تضمنها قرار مجلس الأمن رقم ٢٢٤٥، وتحديد مدى جدية التزام الأطراف بالاتفاق المبرم، خاصة وسقط أكثر من عشرين قتيلًا فى غزة بعد الإعلان عن الاتفاق وقبل دخوله حيز النفاذ، فضلًا عن وجود نقاط عالقة وغير واضحة، منها الفئات الفلسطينية التى سيفرج عنها، وهل تظل قوات إسرائيل فى المنطقة العازلة، أم تنسحب منها كليًا بل إن تأجيل عناصر المرحلة الثانية والثالثة من الاتفاق تفترض حسن النية الغائبة، ويجب التساؤل هل الموافقة على الاتفاق تحرك تكتيكى بغية المناورة، أم مؤشرًا لتوجه ثابت نحو المثابرة والسعى للوصول إلى أوضاع آمنة ومستقرة بين الأطراف؟ ومن الأهمية أيضًا وضع تصور لما هو قادم لتعظيم المكاسب والحد من التداعيات السلبية والمخاطر، خاصة إذ يلاحظ سقوط عنصر بالغ الأهمية فى قرار مجلس الأمن.
وليس من المبالغة الدفع بأن إسرائيل وحماس لم تكونا متحمستين للتوصل إلى اتفاق، وأن تزامن الأوضاع والضغوط الداخلية والخارجية الشديدة فرض عليهم التمشى مع حل الوسط، والمقصود بذلك الخسائر المستمرة على الجانبين، ووصول ضغوط أهل المختطفين الإسرائيليين وأهل القطاع والمحتجزين الفلسطينيين إلى ذروتها، وتكثيف مصر وقطر دور الوساطة فى وقت احتدت ضغوط ترامب قبل بايدن بضرورة شد فتيل الأزمة قبل انتقال الرئاسة الأمريكية إليه، لذا فهو «اتفاق الضرورة» يتطلب المتابعة بدقة لتأمين تنفيذه بأمانة وعدالة.
لن يكون تنفيذ الاتفاق سلسًا، ومن الخطأ الافتراض أن مفاوضات المراحل الأخرى ستنتهى بالضرورة بنجاح، وهى تخص الفلسطينيين على وجه الخصوص، لأن إسرائيل لم تحقق أهدافها المعلنة، فهى أضعفت وإنما لم تقض على حماس، واشترط وزير المالية الإسرائيلية الحصول على ضمانات مكتوبة من رئيس الوزراء أن الحرب ستستأنف بعد المرحلة الأولى، وأعلنت إسرائيل مرارًا استهدافها لقيادات حماس إلى الأبد وفى كل مكان، ولا تزال تتمسك أن يظل لها اليد العليا والقول الأخير فى الأمور الأمنية بغزة، ما يطرح تساؤلات عديدة حول انسحابها الكامل من غزة والترتيبات الأمنية الممتدة للقطاع، وما دام ظلت إسرائيل تمنع ممارسة الفلسطينيين لهويتهم الوطنية لن تنتفى المقاومة، بل ستظهر وتبادلها العنف وفقًا لمقتضيات الموقف والظروف.
ومن مستجدات الاتفاق المبرم تشكيل هيئة متابعة تنفيذ بنوده مقرها مصر، وتضم أيضًا قطر والولايات المتحدة، وهى هيئة يجب تشكيلها وتكوينها والاتفاق على أسلوب اتخاذها للقرارات وتداعيات أية مخالفات بعناية ودقة، حتى تتوافر لها الإمكانيات الضرورية للمراقبة دون الانغماس فى الأحداث، ولتحافظ الأطراف جميعًا على مصداقيتها مع الانحياز الأمريكى التقليدى لإسرائيل ورفض وضعها محل المساءلة.
هذا ويجب عدم الخلط بين هذه الهيئة والمنظومة الإدارية لقطاع غزة فى المرحلة المقبلة مباشرة، والتى يجب أن تكون فلسطينية فى الأساس، وتوفر لهم حقوقهم ولا تنصب على العلاقة بين القطاع وإسرائيل، ولا تقر ضمنيًا بحق إسرائيل الاستمرار بالقطاع، فضلًا عن الاحتفاظ بالتواصل والتكامل سياسيًا مع الضفة الغربية لنهر الأردن.
لم أفاجأ من سلبية الموقف الإسرائيلى والحكومة الحالية، وإنما أزعجنى غياب أى إشارة إلى حل النزاع الفلسطينى الإسرائيلى والدولة الفلسطينية فى التصريحات الصادرة عن الولايات المتحدة، حتى من إدارة بايدن، رغم أنها مقدمة قرار مجلس الأمن ٢٢٤٥ الذى تضمن إشارة صريحة إلى حل الدولتين، وشدد ممثل ترامب فقط على الاهتمام بالبناء على «الاتفاقات الإبراهيمية» بالوصول إلى سلام بين إسرائيل والسعودية، فى حين أكد التصريح الرسمى الصادر عن السعودية ترحيبه بالاتفاق وتطلعه إلى الحل الشامل للنزاع العربى الإسرائيلى، وشدد مرة أخرى على أن أى ترتيبات سلام ثنائية مرهونة بإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
تنظم وتستضيف مصر قريبًا مؤتمرًا لدعم الشعب الفلسطينى تحت الاحتلال، مع تركيز خاص على الأوضاع فى غزة، وهى خطوة إيجابية وضرورية لأن المجتمع الدولى بأكمله يجب أن يشارك فى هذا الجهد، وأعلم أن هناك جهدًا سعوديًا فرنسيًا مشتركًا للإعداد لمؤتمر فى بداية الصيف حول إقامة الدولة الفلسطينية، وهى أيضًا خطوة أثنى عليها، ويجب أن يرتفع الصوت العربى المؤكد على أن الشعب الفلسطينى له نفس الحقوق المتاحة لمختلف شعوب العالم، بما فى ذلك تقرير مصيره وتمكينه من التعبير عن هويته الوطنية، من خلال دولة ذات سيادة، إذ إن إدارة ترامب الثانية ستنطلق وتهتم فقط بالواقع الحالى والاعتبارات الآنية فى التوصل إلى صفقات فى تثبيت الأوضاع وتجنب الصدامات غير الضرورية، وهى غير معنية باعتبارات تاريخيّة أو قانونية.
نقلًا عن إندبندنت عربية