لماذا يتطلع الاقتصاديون إلى تحجيم دور العملة الأمريكية؟ - أيمن النحراوى - بوابة الشروق
السبت 14 ديسمبر 2024 11:00 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لماذا يتطلع الاقتصاديون إلى تحجيم دور العملة الأمريكية؟

نشر فى : الثلاثاء 20 فبراير 2024 - 6:40 م | آخر تحديث : الثلاثاء 20 فبراير 2024 - 6:40 م

مما لا شك فيه أن أحد آمال الاقتصاديين فى معظم دول العالم تتمحور حول تحجيم دور العملة الأمريكية فى الاقتصاد الدولى وإعادة تشكيل نظام النقد الدولى، فقد فعلت العملة الأمريكية اقتصاديا وسياسيا ما لم تفعله عملة أخرى فى التاريخ.
نظام النقد الدولى الحالى الشهير بنظام بريتون وودز تأسس منذ ثمانية عقود كانعكاس لواقع القوة الأمريكية، وهو نظام قام على وحدة تعامل حسابية نقدية دولية ترتبط بوزن معين من الذهب، ولما كانت الولايات المتحدة آنذاك تعمل بنظام الصرف بالذهب فقد تعهدت الولايات المتحدة فى بريتون وودز بالتزامها قابلية تحويل الدولار لدى البنوك المركزية فى الدول إلى ذهب.
وقد قبلت دول العالم بذلك، فتحقق القبول العام للدولار كعملة احتياط دولية، فى ظل اطمئنان الدول إلى ما لدى الولايات المتحدة من احتياطات هائلة من الذهب، والتزامها بتحويل الدولار الورقى إلى ذهب.
وبات الدولار منذ ذلك الوقت عملة الاحتياط الدولية الممكن تحويلها إلى ذهب بثقة واطمئنان، بل ووصل الأمر إلى أن الدول لم تسعَ لتحويل ما لديها من دولار إلى ذهب، وفضلت استثمار دولاراتها فى السندات والأوراق المالية قصيرة الأجل لتحقيق عائد منها.
• • •
فى ظل هذه الأجواء من الثقة والازدهار وطوال السنوات اللاحقة توسعت الاستثمارات الأمريكية والشركات متعددة الجنسية للاستحواذ على الشركات فى أوروبا والعالم وتدفقت مليارات الدولارات فى جميع المجالات والقطاعات، وكان ذلك فى حد ذاته سببا من أسباب العجز فى ميزان المدفوعات الأمريكى.
ومن جهة أخرى ومع توسع الانفاق العسكرى الأمريكى بات الدولار متاحا بفائض عرض كبير لدى العديد من الدول، الأمر الذى فاقم عجز ميزان المدفوعات الأمريكى، لكن ذلك لم يكن مهما فقد كانت الولايات المتحدة تصدر وتطبع مليارات من الدولارات دون رقيب أو حسيب.
ووصف أحد الاقتصاديين الأمريكيين ذلك بقوله: من دواعى السرور أن يكون لدى الولايات المتحدة فى فنائها الخلفى مطبعة للعملة الورقية، فمعيار الذهب التبادلى بالدولار قد منحنا هذا الامتياز بمقدار لا يقل عن جنوب أفريقيا (أكبر منتج للذهب فى العالم آنذاك) وهكذا عززت كل تلك العوامل استمرار الدولار كمصدر رئيسى للسيولة النقدية الدولية.
• • •
فى 15 أغسطس 1971 ظهر الرئيس نيكسون فى أحد أشهر الخطب فى التاريخ ليعلن رسميا إيقاف الولايات المتحدة تحويل الدولار إلى الذهب.
ومع تجاوز العالم لتلك الصدمة، استمر الدولار فى أداء دوره كعملة تمويل وسيولة دولية لنظام تجارى دولى أبقت فيه الدول الغربية على النفط والمواد الخام والأسواق العالمية تحت سيطرتها ولصالحها، وأبقت على علاقات تبادل تجارى غير متكافئ مع الدول النامية وخاصة الأفريقية التى تعتمد اعتمادا شبه كلى على تصدير المواد الخام كمصدر رئيسى للدخل لشعوبها.
كان أحد أسباب تدهور الإيرادات التصديرية للدول النامية هو التراجع المستمر فى أسعار المواد الأولية، وتدهور شروط التجارة الدولية فى غير صالحها نتيجة تدهور العلاقة النسبية بين أسعار صادراتها ووارداتها، والأخطر والأهم هو تدهور القوة الشرائية للدولار بفعل مستويات التضخم المرتفعة فى الولايات المتحدة، وتدهور سعر صرف عملات الدول النامية نفسها أمام الدولار.
فى ظل تلك الأوضاع لم يكن أمام الدول النامية إلا اللجوء للقروض الخارجية والتى باتت مصدرا للسيولة لها لتغطية احتياجاتها الضرورية، وهو اقتراض كان يتم بشروط وفوائد باهظة، أما أعباء خدمة الدين فقد باتت حملا ثقيلا عليها تحيط به قيود سياسية خانقة.
• • •
الولايات المتحدة طوال العقود الثمانية الماضية وإلى اليوم كانت ومازالت تواصل طباعة المزيد من الدولار، ولماذا لا؟! وقد أتاح لها نظام النقد الدولى الحالى أن تفعل ذلك باطمئنان لتمويل عجز ميزان مدفوعاتها باعتبار الدولار هو عملة السيولة الدولية الرئيسية.
وباعتبار أن دول العالم تقبل الدولار كغطاء نقدى لعملاتها، باتت الولايات المتحدة تتوسع فى إصدار الدولار دون حدود، وباتت فى ذات الوقت تنقل التضخم المرتبط بتوسعها النقدى إلى جميع أنحاء العالم، دون ثمن حقيقى يتكبده الاقتصاد الأمريكى.
وقد وصف الاقتصادى الأمريكى دوجلاس ديلون ذلك بقوله: إننا نتمتع بميزة حقيقية عندما يتم تمويل عجز ميزان مدفوعاتنا بواسطة زيادة كمية الدولارات التى تتدفق إلى العالم، فإذا لم يكن الدولار هو عملة الاحتياط والسيولة الدولية، وإذا لم تكن الولايات المتحدة هى مصرف العالم الذى يطبع الدولارات، فلم يكن لذلك أن يتحقق.
• • •
بالأمس القريب وصف الرئيس بوتين استخدام الولايات المتحدة للدولار كسلاح ضد روسيا بأنه خطأ كبير، فى إشارة إلى أن الولايات المتحدة تقلص بذلك ثقتها فى نظام النقد الدولى الذى يتمحور حول عملتها، مشيرا إلى أن أكبر متضرر على المدى الطويل من تسليح الدولار هى الولايات المتحدة نفسها، وذكر بوتين أنه حتى عام 2022 شكل الدولار 50% من التحويلات النقدية بين روسيا والعالم، الآن تدنت تلك النسبة إلى 12%.
الصين أيضا تتحرك على نفس المسار، وهى منذ فترة ليست بالقصيرة تنتهج سياسة الحد من الاعتماد على الدولار تلافيا للمخاطر المرتبطة به وبالاقتصاد الأمريكى؛ وهى كذلك مدفوعة برغبتها فى تعزيز مكانة عملتها اليوان وتعزيز التوجه نحو استخدامها فى تجارتها الخارجية، وفى مطلع عام 2022 كان اليوان الصينى يستخدم بنسبة 3% فى المعاملات التجارية الدولية، اليوم باتت هذه النسبة تقارب 35%.
على ذات المسار يتحرك تجمع بريكس بأكمله للتخلص من الدولار فى تعاملاته التجارية البينية، وروسيا وهى العضو الرئيسى فى ذلك التجمع طورت من جانبها نظام مير للمدفوعات، وتسعى مجموعة الدول أعضاء بريكس وهى دول ذات مكانة اقتصادية معتبرة لإقامة نظام يتمحور حول عملة جديدة ونظام مدفوعات دولى جديد للتجمع.
الاقتصاديون أيضا فى الدول النامية يأملون فى تحجيم دور الدولار، ففى ظل نظام النقد الدولى الحالى زادت الديون العامة للدول النامية خلال العامين الماضيين لتتجاوز 60 % وباتت الاقتصادات الهشة للدول النامية تعانى بشدة من تقلبات أسعار الفائدة والتغيرات المفاجئة فى سعر صرف الدولار، وبات ذلك ينعكس على مستويات المعيشة بصورة خطيرة لا يمكن القبول باستمرارها.
لذلك أخذت العديد من الدول بما فيها حلفاء للولايات المتحدة فى تقليل اعتمادها على الدولار كغطاء لعملتها وحفظ أرصدتها الدولية، والتحول إلى الذهب كبديل أكثر ضمانا وموثوقية، كما أن هناك أسبابا سياسية لذلك أهمها أن الدولار أكسب ومازال يكسب الولايات المتحدة قوة وسيطرة غير مبررة على مقدرات الاقتصاد العالمى، رغم تراجع القدرات الحالية للاقتصاد الأمريكى.
وخلال العام الماضى انخفضت نسبة إسهام الدولار فى تمويل التجارة الدولية من 86% إلى 82% وقد تبدو النسبة ضئيلة، لكنها مؤشر مؤكد على أن التوجه العالمى لتحجيم مكانة ودور العملة الأمريكية قد بدأ بالفعل ولن يتوقف.

أيمن النحراوى  خبير اقتصاد النقل والتجارة الدولية واللوجيستيات
التعليقات