«الأرض بتتكلم عربى وقول الله.. إن الفجر لمن صلاه».. على وقع صوت الفنان الشاب محمد شوقى، وهو يأخذ بنا إلى أجواء زمن فات، كنت أرتقى سلم قصر الأمير بشتاك بشارع المعز متلهفا للوصول إلى قاعة القصر الرئيسية التى احتضنت لفيفا من محبى وعشاق شيخ الملحنين سيد مكاوى، المتربع فى وجداننا، الحاضر دوما فى خاطرنا، لنقضى أمسية رمضانية تليق بإحياء ذكرى مولد «المسحراتى» الذى دخل ــ ولا يزال ــ كل البيوت المصرية والعربية، موقظا النائمين، ومنبها الغافلين عن واجباتهم، تجاه أنفسهم وأوطانهم.
الأمسية التى جاءت ضمن نشاطات «صالون مقامات»، بالتعاون بين صندوق التنمية الثقافية وإذاعة البرنامج الثقافى بالإذاعة المصرية، لم تقتصر على حزمة أغانٍ من ألحان سيد مكاوى، قدمها التخت الشرقى بقيادة الفنان يامن عبدالله، بل خص الحضور بظهور استثنائى لزوجة الفنان الراحل السيدة زينات، التى راحت الدكتورة إيناس جلال الدين، مدير عام الموسيقى والغناء بالإذاعة المصرية، تستخرج منها بعضا من الذكريات والأسرار الخاصة فى حياة صاحب ألحان «الليلة الكبيرة»، و«أوقاتى بتحلو»، و«يا مسهرنى» ليحظى جمهور شغوف بليلة حافلة بالشجن.
المفاجأة أيضا كانت حضور أميرة، ابنة الفنان الكبير، التى عكست فى كلمات قليلة خصت بها «الشروق»، وعيها العميق بتراث والدها الغنائى، فقد وجهت عتابا رقيقا لمن صنفوا «المسحراتى» فى «خانة الفلكلور، بينما كان المسحراتى بمثابة ضمير للأمة يعمل على إيقاظها وتنويرها وتذكيرها بقيمها الجميلة».
نعم سيظل «المسحراتى سيد مكاوى» يوقظ فينا بكلمات أبو شعراء العامية، فؤاد حداد كل ما هو جميل فى هذا الوطن، وفوق هذه الأرض التى ستبقى أيضا «تتكلم عربى بوجد وشوق»، فالأرض لا تموت، هكذا تخيل المعنى سيد مكاوى عند وضع لحن «الأرض بتتكلم عربى»، كما قال فى حوار لمحطة تليفزيونية عربية فى منتصف الثمانينيات من القرن العشرين.
فى الحوار ذاته يقول شيخ الملحنين إنه مدين للناس بتعلم الموسيقى، ومن كثرة ما أحببت الناس، استطعت أن أعرف ما يحبون، وما لا يحبون، وألحانى تخرج من حب الناس.. (وعادة) ربنا يوفقنى لعمل اللحن الذى يصادف حب كل إنسان.. وهذا راجع أولا وأخيرا إلى ضرورة أن يكون الفنان صادقا مع نفسه.. «فلا يعمل الشغل من أجل الشغل وخلاص.. فلابد أن يكون هناك ارتباط بين الفنان والناس وبين الفنان والموسيقى».
مكاوى، الذى ولد فى 8 مايو بحى السيدة زينب، لم يكتف فى الحوار بالحديث عن نفسه وحبه لأصوات: ليلى مراد، ونجاة الصغيرة، وميادة، ووردة، وهدى سلطان، بل راح يتذكر «أم كلثوم ست الكل» التى لحن لها «يا مسهرنى»، كاشفا بعضا من طقوس كوكب الشرق خلف الكواليس وقبل الخروج لمواجهة الجمهور على المسرح، قائلا إنها كانت تصلح أوتار العازفين، وهو عمل لا يقوم به إلا أصحاب الوعى الموسيقى والأنغام بتنوعاتها التى تتشابه مع الألوان بدرجاتها».
هذا هو سيد مكاوى الذى يمثل فى رأى الصديق والشاعر والمؤلف الموهوب سعد القليعى» حلقة الوصل بين مرحلة المشايخ فى الموسيقى والتى تحفل بأسماء أعلام منذ الشيخ المسلوب والمنيلاوى مرورا بالشيخ سيد درويش والشيخ زكريا وبين حلقة التطور الثانية التى بدأها عبدالوهاب لتتفرع عنها أسماء الموجى والطويل وبليغ وقبلهم السنباطى، وإن كانت جذور مكاوى ضاربة فى الحلقة السابقة والتى كانت بها روائح من التطريب العثمالى أو المتترك كما يسمونه».
القليعى، الذى شاركنا حضور الأمسية الرمضانية الخميس الماضى، يرى أيضا أن الشيخ سيد مكاوى «استطاع أن ينحو بمنجزه الموسيقى نحو مصريته الخالصة كتطور طبيعى يختلف عن الطفرات والانحناءات الشاذة التى ألمت بموسيقانا بعد ذلك». ورغم أصالة مكاوى وانطلاقه من قاعدة راسخة وشخصية متضحة «حسب القليعى» إلا أن ذلك لم يمنعه من فتح نوافذ عالمه على الموسيقى المصرية فى كل تجلياتها بدءا من موسيقى العوالم صعودا لموسيقى التصوف الروحية».
رحم الله الشيخ سيد مكاوى، كلما صحى النائم ووحد الرزاق، وقال «نويت بكره إن حييت الشهر صايم والفجر قايم».. ورمضان كريم.