رسم خياراتنا المستقبلية باستخدام خرائط الهدر - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:11 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رسم خياراتنا المستقبلية باستخدام خرائط الهدر

نشر فى : الخميس 20 يوليه 2023 - 8:25 م | آخر تحديث : الخميس 20 يوليه 2023 - 8:25 م
فى استراتيجية مصر للتعامل مع التغير المناخى والصادرة فى التاسع عشر من مايو عام ٢٠٢٢، تم تحديد خمسة أهداف وعمل حصر أولى لمجموعة من المشروعات التى يختص جزء منها بالتكيف مع التغير المناخى بينما يركز الجزء الآخر على التخفيف من التغير المناخى. لكن، لم تحدد الاستراتيجية أرقاما واضحة تتوافق مع تلك المعلنة من قبل اللجنة العابرة للحكومات الخاصة بالتغير المناخى والتى تستهدف خفض الانبعاثات بمقدار النصف بحلول عام ٢٠٣٠، على أن يتم الوصول لصفر انبعاثات بحلول العام ٢٠٥٠. والسؤال الذى أسأله لنفسى ولمن حولى هو هل نستطيع تجاهل تلك الأهداف المحددة حتى وإن حاججنا بأن مساهمتنا محدودة؟ وكانت إجابتى هى أننا لا نملك أن نغامر بمستقبل أولادنا وأحفادنا كما أننا سنكون أيضا فى موقف أضعف كثيرا فى المطالبة بتوفير التمويلات والمساعدات الفنية التى نحتاجها. هذا بالإضافة إلى أننى أعتقد أننا نغفل حقيقة أن التعامل مع تلك الأهداف بجدية يمثل فرصة هامة للتحول ليس فقط البيئى ولكن أيضا الاقتصادى والاجتماعى.
لكن كيف يمكن لنا الوصول لأرقام وأهداف محددة تتوافق مع العلامات العالمية للتعامل بفعالية مع التغير المناخى وتدهور التنوع الطبيعى؟ كانت بداية محاولة الإجابة على هذا السؤال فى مارس ٢٠٢٢ خلال كلمة رئيسية لمؤتمر المدن المستدامة فى القاهرة، نشرت فيما بعد ركزت على فكرة أساسية هى إعادة التفكير فى الهدر كأحد الطرق المؤدية للتحول المتجدد أو المستدام.
• • •
فى نهاية سبتمبر من عام 2022، كانت البداية لتناول إحدى المدن المصرية بالدراسة وهى مدينة القصير، التى تراكم معلومات عديدة عنها منذ خريف ٢٠١٦ وخبرات عديدة عنها قد تسمح بجعل مهمتنا ممكنة. لمدينة القصير مخطط عام قامت بعمله الهيئة العامة للتخطيط العمرانى فى العام ١٩٩٨، وكان هذا المخطط يستهدف الوصول بعدد سكان المدينة لما يقارب المائة وعشرة آلاف نسمة مع حلول العام ٢٠١٧، الذى تصادف بقيامنا بدراسة مفصلة لموقع مصنع الفوسفات به فى تلك السنة؛ كما بينت لنا الإحصائيات التى أصدرها الجهاز العام للتعبئة العامة والإحصاء أن عدد سكان المدينة لم يتجاوز فى تلك السنة الخمسين ألف نسمة. وبالرغم من أنه تم تحديث هذا المخطط فى هذا العام إلا أن المخطط الجديد لم يتناول التحديات البيئية المحلية والتى هى مرتبطة بالتحدى البيئى العالمى كأحد المحددات الرئيسية التى ينبغى فهم التنمية والتخطيط لها من خلاله.
ما حاولت أن أقوم به مع طلبة وطالبات ماجستير الدراسات العمرانية أن نعمل بناء على فكرة مفادها، أننا لو درسنا الهدر أو المخلفات فى الأنواع الثلاثة؛ الغازى والسائل والصلب، ربما أمكننا هذا تحديد الكمية التقريبية للغازات وخاصة تلك المسئولة عن الاحتباس الحرارى. وإذا تعرفنا على مصدر إنتاج تلك الغازات من قطاعات اقتصادية وأنشطة تحدث فى أماكن معينة فى المدينة أو خارجها لكنها مرتبطة بها، فسنكون على أول الطريق الصحيح لوضع خطط مستقبلية للتساؤل عن كيفية خفضها بالنسب الدولية وبالتالى يمكن تناول الهدر الغازى بصورة أدق مع خطط مواجهة التغير المناخى. بينما نتعامل مع الهدر السائل والهدر الصلب بصفتهما السببين الرئيسيين لتلوث البيئة، وإذا أردنا استعادة الحيوية للبيئة الطبيعية بحلول العام ٢٠٣٠ كما طالبت اللجنة الدولية المختصة بالتنوع البيولوجى فى ديسمبر الماضى، فعلينا أولا أن نسعى بجدية للوصول بهما إلى ما يقارب الصفر. على أن يتوازى ذلك بالطبع مع مجهودات أخرى لاستعادة ما لا يقل عن ثلاثين فى المائة من البيئات الطبيعية المتدهورة أيضا بحلول نفس العام. كان افترضنا أنه بالإمكان وبدقة مقبولة أن نقوم برسم خطة تتوافق مع الأهداف العالمية للحفاظ على البيئة الطبيعية على كوكبنا دون أن يكون لدينا قدرات حاسوبية متطورة أو إنفاق كبير على البحث العلمى كما فى الدول الأكثر تقدما.
تشكلت ثلاثة فرق يختص كل منهم بأحد الأنواع الثلاثة للهدر. وكان على كل فريق أن يوثق ثلاث مراحل رئيسية أولها، أين يحدث إنتاج المخلفات أو الهدر وما هى كمياته، وهل تتفاوت مع أوقات السنة؟. وثانيها، كان النقل ومن يقوم به؟، وثالثها التخلص منه أو إعادة استخدامه سواء كانت فى أماكن نظامية أو ببساطة من خلال عمليات خطرة مثل حرق النفايات فى أماكن تجميعها (سواء لأنها لا تجد من ينقلها أو لأسباب أخرى). بالطبع، تختلف تلك العمليات طبقا لنوع الهدر، فمثلا فى الهدر السائل ولعدم وجود منظومة للصرف الصحى تعمل على تجميعه ونقله لمحطات المعالجة (تم أخيرا تنفيذ محطة معالجة ومواسير الصرف، لكن ربط المبانى عليها لا يبدو أنه يسير بالصورة المتوقعة)، وفى كل الأحوال يمثل تسرب الصرف للتربة والمياه الجوفية إحدى المشاكل الكبرى، وخاصة فى تلك المبانى التى يتصل قاعة بيارة الصرف بها بالمياه الجوفية مباشرة كما فى المنطقة التاريخية. فتوجد شواهد على تخلص السيارات التى تقوم بشفط مخلفات الصرف الصحى منها فى المناطق الطبيعية الرئيسة مثل وادى العمبجى.
• • •
كانت نتائج الدراسات التى قمنا بها هى مجموعات من خرائط الهدر وتقدير كمى للكميات المنتجة والأنشطة المسئولة عن إنتاج كل نوع منه، وأشارت تلك البيانات إلى العديد من النتائج المثيرة للاهتمام. كما أنها تثير قضايا عدة تحتاج لمناقشات موسعة، فمثلا ظهر بوضوح مدى مسئولية النشاط السياحى المتمثل أساسا فى القرى السياحية عن إنتاج جزء كبير من الهدر، ففى الانبعاثات الغازية مثلا كانت هناك ثلاثة قطاعات رئيسية مسئولة عن معظم الهدر، أولها قطاع التنقل وثانيها قطاع الطاقة وثالثها الطعام.
فى قطاع التنقل، الذى يلعب فيه وصول السياح بالطائرات العامل الأكبر فى توليد تلك الانبعاثات ويمثل هذا تحديا كبيرا للخطط المعلنة من الحكومة بتشجيع زيادة السياح لأن الوضع القائم يمثل تحديا كبيرا قد يمنع إذا استمر فى تحقيق أى من أهداف خفض الانبعاثات سواء سنة ٢٠٣٠ أو لسنة ٢٠٥٠، وهو ما يعنى ببساطة تعريض المناطق الطبيعية مثل الشعاب المرجانية لضغوط بيئية لا تحتملها وقد تؤدى إلى انهيارها. ولأن هذه الشعاب نفسها هى الجاذب الرئيسى للسياحة الخارجية الوافدة، كما أنها الداعم للحياة البحرية بما فيها من أسماك وكائنات أخرى. هذه قضية هامة للغاية وتتعامل مع خياراتنا المستقبلية فى إطار أرقام تستوجب علينا دراسة الاختيارات المتاحة لنا، وهى غالبا محدودة ولكنها لا تُعرض وتُناقش فى الغالب بناء على معلومات وبيانات واضحة مثل تلك التى جمعناها.
تعد الأنشطة السياحية مسئولة أيضا عن نسبة كبيرة من الهدر السائل والمتمثل فى السائل الملحى الناتج من تحلية المياه، والذى يتم ضخه غالبا فى آبار جوفية وهو ما يؤدى إلى زيادة ملوحة المياه الجوفية المرتبطة بصورة أو بأخرى بباقى منظومة المياه، بالتالى تؤثر فيها أيضا إضافة إلى استهلاكها كمية كبيرة من الطاقة.
هناك ارتباط بالطبع بين كمية الاستهلاك وكمية الهدر المنتج، فالتفاوت الواضح بين المناطق السياحية ومناطق أخرى فى المدينة يطرح قضية أخرى للنقاش. فبينما يجب خفض الاستهلاك وعمل تدخلات كبرى لتقليل الهدر إلى ما يقارب الصفر فى المناطق السياحية، ربما يجب علينا رفع معدلات الاستهلاك وخاصة فى الماء والطاقة والطعام لسكان المدينة لكى يتمكنوا من العيش بصورة أفضل حتى مع تقليل الهدر الناتج منهم لأقصى حد. إذن، تصبح قضية الحق فى الوصول لأساسيات العيش الكريم قضية أيضا ترتبط بالحفاظ على البيئة الطبيعة، لأن المواطنات والمواطنين الذين يعيشون بصورة أفضل سيكونون قادرين على فهم وتقدير أهمية البيئة الطبيعية وضرورة الحفاظ عليها بصورة أفضل من أولئك الذين يكافحون للحصول على الحدود الدنيا من سبل العيش. كما أنهم سيكونون قادرين، بصورة أفضل، على المشاركة الفعالة فى الأنشطة الاقتصادية المحلية.
يظهر هذا التفاوت الذى لا يبدو ضروريا أحيانا فى مستوى وسائل النقل المحلية المتاحة لسكان المدينة مقابل تلك المتاحة للسياح، ونعرف أن هناك الآن من الرواد المصريين فى قطاع تحويل وسائل النقل للعمل بالبطاريات الكهربية ما يوفر إمكانية لإلغاء أو تقليل هذا التفاوت.
بدا لنا التحدى كبيرا، لكنه يستطيع أن يستفز قدراتنا العلمية والمهارات الأخرى ويمكننا من التواصل مع المجتمع بصورة أكثر فعالية والمساهمة فى طرح قضايا معقدة ــ من خلال وسائط أقرب لفهم وإدراك المواطنات والمواطنين مثل الهدر والمخلفات ــ كما يمكننا من مناقشة قضايا مهمة للغاية مثل قدرتنا على تحقيق الأهداف العالمية لأن تحقيقها يصب فى مصلحتنا أولا وأيضا لا يضعنا فى موقف أكثر ندية مع العالم من حولنا وربما يمكننا من مساعدة جيراننا الأقربين.
التعليقات