مشكورا، أهدانى العزيز، على أبوشادى، نسخة من كتابه الجديد. قلبت صفحاته سريعا، فوجئت بصور الأفلام التى يتحدث عنها: مجرد مربعات صغيرة، بداخلها أشكال هندسية بلا معنى، مكتوب تحتها «مشهد من ميرامار»، أو «مشهد من إحنا التلامذة».
ظننت أن المطبعة، لسبب أو آخر، أهملت وضع الصور.. أدهشتنى حالة السكينة والرضاء التى عليها صديقى، فهو من النوع الذى يغضب ويحزن لمجرد اكتشافه لكلمة ناقصة أو حرف ضائع فى مقالاته المنشورة. لاحظ حيرتى.. بانتشاء، أخرج تليفونه المحمول من جرابه. فتحه، اقترب به من مربع طلاسم مكتوب تحته «مشهد من الفتوة». ضغط على إحدى أزراره، كما لو أنه يلتقط صورة. رأيت على شاشته، بوضوح، تحية كاريوكا، تواجه فريد شوقى، عقب تلقيه صفعة القفا، قائلة، جملتها الشهيرة «صحتين وعافية على بدنك يا تلح».. يستمر المشهد، بمؤثراته الصوتية، وإضاءته الواقعية، كما لو أنه مأخوذ من نسخة خرجت توا من المعمل.
بغبطة، انتقل أبوشادى، إلى مربع آخر، مكتوب تحته «مشهد من الأرض»، ثم إلى «مشهد من العزيمة».. كلها، مشاهد ناصعة، مختارة بعناية، تعبر بدقة عن أسلوب هذا المخرج وذاك، وتؤكد صحة تحليلات الناقد.
أخذ يشرح لى كيف أن ما أراه هو تطبيق لتقنية حديثة تنقل القارئ إلى عالم الميديا بالتوازى مع القراءة، مستفيدة من إنجاز اسمه «باركودا»!
لم استوعب التفاصيل، لكن أدركت أن أفقا جديدا انفتح أمام المطبوعات، وأن الورق، يدافع عن نفسه، ويثبت أحقيته فى البقاء والاستمرار، وأنه لن ينقرض حسب ظن البعض.
بعيدا عن هذا الانجاز الطباعى، يأتى الكتاب فى «١٧٩» صفحة، متضمنا «٢٤» مقالة، الكثير منها عن وجوه سينمائية، تلألأت فى قلب الناقد، إنسانيا وفنيا، يعرفها تماما، معرفة شخصية، تبلغ حد الصداقة، كما يدرك، بشمول وعمق، قيمة ما أنجزته، فى عالم الأطياف.. ثمة مقالات أخرى، يتأمل فيها الناقد، من زاويته، إنتاج العديد من المبدعين.
«الإسكتش»، أو البورتريه، أو الصورة القلمية، أسلوب مرهف، حميم، من الكتابة، أحبه، وطالب به، عمنا الكبير، يحيى حقى، الذى أنجز فى مضماره، عشرات اللوحات التى لم يبهت جمالها.
مقالات الكتاب تتباين فى حجمها ورونقها، لكن أظن أن «كمال الشيخ: رحلة الإبحار عكس التيار»، تحظى بأفضل مستويات الناقد، خاصة فى ربطها بين طباع المخرج الكبير، والأفلام التى حققها. يقول: جاءت سينما كمال الشيخ فى مجملها على شاكلة صاحبها بحركته الهادئة والوثقة وأناقته الظاهرة وتواضعه الشديد.. وعفة لسانه ونبرته الخافتة وتجنبه للثرثرة وعباراته الواضحة المحددة.. انعكس ذلك كله على أفلامه، فجاءت خالية من الإسفاف أو الابتذال أو الترخص، لا مكان فيها لكلمة نابية أو تعبير جارح.
تتوالى مقالات عن توفيق صالح، المتمرد.. يوسف شاهين، الساعى لاقتناص الجوهر.. رأفت الميهى، رجل السينما، رفيق الصبان، شاعر النقد السينمائى.. وآخرين.. لكن، إذا كان ما كتبه على أبوشادى عن كمال الشيخ، فى معرض الوجوه.. فإن ذكاءه يقوده إلى اختيار زاوية مهمة، فى عالم نجيب محفوظ السينمائى، حيث يتأمل عملين، كتبهما محفوظ، مباشرة للسينما.. هما «درب المهابيل» لتوفيق صالح ١٩٥٥، و«بين السما والأرض» لصلاح أبوسيف ١٩٥٩.. يحللهما الناقد، يفسرهما اجتماعيا، يصل لنتيجة صحيحة تقول القصتان.. غير المنشورتين، تنتميان إلى عالم نجيب محفوظ السينمائى أو الأدبى. يتجلى فيهما عمق رؤيته ونفاذ بصيرته.
«وجوه وزاويا»، إضافة لها شأنها، فى الكتابات النقدية، وإنجاز فى طباعة الكتب السينمائية.