صباح السبت الماضى استيقظت مصر كلها على فاجعة قطار أسيوط. خمسون طفلا قتلوا وعشرون أصيبوا عند مزلقان قرية «المندرة» بمركز منفلوط. هذه هى الحقيقة وكل ما عداها تفاصيل. وصور أهالى المنطقة وهم يجمعون أشلاء أبنائهم من على قضبان السكة الحديد لن تنمحى من وجدان كل من شاهدها ورأى فيها تعبيرا عميقا عن أزمة أكبر تعيشها مصر من فوضى وتسيب واستهتار بالأرواح وعدم اكتراث من المسئولين وانشغال من القوى السياسية بالصراع على السلطة وتجاهل لمشاكل الناس التى لا تجد لها حلا.
ولأن الشعب دائما أفضل من حكامه، فإنه فى مثل هذه اللحظات الفارقة ينسى الناس خلافاتهم ويتجاوزون ما يفرق بينهم ليقفوا صفا واحدا وراء أهالى الضحايا، يشدوا من أزرهم، ويساندوهم، ويضمدوا جراح المصابين، ويتذكروا أنهم أبناء وطن واحد وأن أمراض الإهمال والفساد والتسيب لا تميز بين مسلم ومسيحى، بين رجل وامرأة، أو بين صغير وكبير. مصر كلها اتجهت قلوبها ومشاعرها صوب منفلوط، تبحث عما تواسى به المكلومين، وتبحث عن إجابة لسؤال محير، كيف يكون للفرد قيمة أكبر فى مصر؟
هل كان ما حدث خطأ من قائد القطار، أم استهتار من سائق الاتوبيس، أم إهمال من عامل التحويلة، أم عطل فى مكان ما؟ لا أعلم ولن تتضح الحقيقة الا فى ضوء تحقيقات النيابة. ولكن الأكيد أن هناك خللا بالغا فى النظام بأكمله، نظام إدارة السكك الحديدية، وصيانة القطارات، وتشغيل المزلقانات، بل كل ما يتعلق بإدارة المرافق العامة فى هذا البلد.
لسنوات طويلة ركبت قطار الصعيد ذهابا وإيابا، غالبا إلى أسيوط وأحيانا لما بعد ذلك. قطار الصعيد هو شريان الحياة لنصف سكان مصر، يجلب لهم كل أسبوع القضاة والموظفين وأساتذة الجامعات والأطباء والعائدين بمدخراتهم من الخليج، ويركبه صوب العاصمة الطلاب المغتربون فى جامعات القاهرة والإسكندرية والتجار الباحثون عن فرص لبيع منتجات الصعيد وأصحاب الامراض المستعصية الموعودون بالعلاج فى قصر العينى. ولكن خلال هذه السنوات كان تدهور حال القطارات والمحطات والخدمة مذهلا. القطارات ذاتها باتت عتيقة، ومواعيد التحرك والوصول لم تعد حقيقية بل صارت استرشادية، والمقاعد لم تقترب اليها يد بالصيانة أو التنظيف لسنوات، وتكييفاتها لا تعمل ولا فى عز الصيف، ودورات المياه لم يتبق منها الا رائحة نفاذة، وحجز التذاكر مغامرة يتداخل فيها الحظ والمحسوبية والرشوة والبلطجة فى معادلة لا يفهمها الا الخبراء. اما المزلقانات فأمرها يصعب تصديقه. فى القرن الواحد والعشرين لا يزال المزلقان يعمل بالبركة وبالصدفة، والعامل يجلس صباحا داخل كشك أقرب إلى الأنقاض ويشعل فى المساء نارا خارجه تدفئه وتيسر له عمل الشاى، وأدواته جهاز لاسلكى ينتمى للحرب العالمية الثانية وهو وسيلته الوحيدة للاتصال بالعالم، اما المزلقان فيتم فتحه وإغلاقه يدويا، والعابرون اعتادوا اجتياز القضبان حتى قبل مرور القطار بثوان معدودة فى مغامرة تمرسوا عليها ولكن يظل الخطأ فيها وارد.
نحن باختصار أمام نظام انهار بالكامل. ولذلك فقد يسهل إلقاء اللوم على عامل المزلقان وعلى سائق الأتوبيس وعلى قائد القطار، ولكن الخلل فى الحقيقة يتجاوزهم جميعا لأن إدارة المزلقانات لا ينبغى أن تعتمد على يقظة عامل التحويلة ولا على حسن تقديره، بل على نظم للادارة والإنذار والإغلاق التلقائى التى تتدخل حينما يقع خطأ بشرى. ويسهل أيضا إلقاء التبعة على رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية ووزير النقل، فهم المسئولون عن كل ما يجرى على أرض مصر، وهذا هو معنى المسئولية السياسية. ولكن احترام القتلى والمصابين وذويهم يقتضى ألا يتم استغلال هذا الموقف المأسوى لتحقيق مكاسب سياسية وحزبية سهلة، ولا أن يتحول إلى مناسبة اعلامية تنفض بعد يومين دون أى تغيير يذكر.
حجم الاصلاح المطلوب فى سكك حديد مصر ــ كما هو الحال فى سائر المرافق العامة ــ يتطلب أعواما وعشرات المليارات وصبر أيوب. وإن كانت الحكومة الحالية لا يقع عليها وزر الانهيار فى السكك الحديدية، إلا أنها مسئولة عن وضع برامج وسياسات للتعامل مع مشكلات مصر الملحة والمعروفة. وإن أردنا تقدما حقيقيا وإصلاحا مؤثرا، فيجب أن تكون البداية هى تقييم سليم لحجم الكارثة التى نواجهها، وتدخل سريع فى الجوانب الملحة التى لا تحتمل الانتظار، ثم تخطيط طويل المدى لتطوير وإصلاح النظام بأكمله. والمسألة تتعلق بتحديد الأولويات. فإن كانت السكك الحديدية تحتاج إصلاحا وتطويرا فى القطارات والقضبان والمزلقانات وأجهزة التكييف والمحطات ونظام الحجز، فأتصور مثلا أنه يمكن تنفيذ خطة عاجلة لميكنة المزلقانات والبدء فى صيانة القضبان فورا باعتبارها الأولويات الأكثر إلحاحا، وتأجيل إصلاح التكييفات وتجديد محطات الانتظار باعتبارها قابلة للانتظار بضعة أشهر، وهكذا. فالحكومة معذورة فيما ورثته من نظم منهارة وبنية تحتية متداعية، ولكن عذرها لن يمتد إلى الأبد وعليها على الأقل أن تقنع الرأى العام بأن لديها خطة عاجلة يمكن تنفيذها فورا ولديها تصور وبرنامج للإصلاح طويل المدى.
كلمة اخيرة حول فاجعة منفلوط. صباح ذات اليوم التعيس ــ يوم السبت ــ خرجت علينا الصحف بأخبار اليوم السابق والتى تصدرتها أنباء وصور زيارة رئيس الوزراء المصرى إلى غزة تضامنا مع الشعب الفلسطينى فى مواجهة العدوان الاسرائيلى. وللأسف أن جانبا من الاعلام ومن الرأى العام قد صب جام غضبه واحباطه من حادث المزلقان على غزة وعلى أهلها وعلى رئيس الوزراء الذى انشغل عن مشاكل بلده. ولكن الحقيقة أنه لا يوجد تعارض ولا حتى علاقة بين الأمرين، بل مبالغة فى السعى لتحقيق مكاسب سياسية وحزبية فى كل منعطف وكل لحظة. أرجوكم يا ناس ألا نخلط الأمور ببعضها إلى هذا الحد. أطفال منفلوط وأطفال غزة كلهم يستحقون الحياة ونحن جميعا شركاء فى وطن واحد، فلا تتركونا نقع مرة أخرى فى الفخ الذى يصور للناس أن هناك تناقضا بين مناصرة غزة وأهلها وبين رفع الظلم والإهمال عن الصعيد وعن أبنائه وبناته. هناك ضرورة للاهتمام بالإنسان وبكرامته وبقيمة حياته فى كل موقع من مصر ومن الوطن العربى، وهذه هى قضيتنا جميعا ولا حاجة للانقسام حولها.