يتردد منذ حين وبازدياد مُطرد أنباء عن حدوث نهضة اقتصادية لافتة للأنظار جار بناؤها فى مصر، من خلال مشروعات كُبرى وقرارات جريئة، يدعم ذلك إشادة مؤسسات دولية دائنة لمصر، كما يتبنى الترويج المكثف لما يحدث جوقه هائلة من إعلاميين ومؤسسات إعلامية تابعة محلية، وأحيانا أجنبية موالية بتنوعها وتشعبها.
لكن السؤال المُحير هنا هو أنه إذا كانت هناك بالفعل نهضة اقتصادية حقيقية طبقا لما يجب أن نسعى إليه وما نتمناه جميعا، ألم يكن من البديهى أن يكون ذلك قد انعكس إيجابا على حجم التضخم وقيمة العملة المحلية والقوة الشرائية للمواطنين وحجم الديون المستحقة على الخزانة العامة داخليا وخارجيا... أليس كذلك؟
إلا أن الشواهد والبيانات المتداولة تُؤكد العكس تماما، حيث إن هناك تراجعا متواصلا فى الجوانب الأربعة المذكورة لا تُخطئه العين والبصيرة.
إذن أين هى الحقيقة؟.. ولماذا هذا التعارض فيما يُروج له وما يحدث على أرض الواقع؟
إن جهات الاختصاص وتوابعها فى الإعلام إضافة إلى الأطراف الخارجية تُمثل جانب الفاعل الحقيقى لما يحدث لأنها فى مجموعها ذات توجه واحد، لذلك فإنه من البديهى ألا تكون هى الطرف المناسب للحُكم على ما يحدث، كما أن الأفكار والمبادرات والسياسات والخطط والأبحاث التى تُعد فى غُرف مغلقة ويُعلن عنها فجأة دون إحاطة أو مشاركة المجتمع بدراسات جدواها، لا تخرج عن كونها اجتهادات بشرية تحتمل الصواب كما تحتمل الخطأ..
لذلك فإنه طبقا للقاعدة الأزلية المعروفة التى استقرت منذ زمن فى الأمم التى تسعى للتقدم أن التقييم الموضوعى لِما نتحدث عنه يجب أن يخضع لحُكم طرف آخر محايد أو أكثر.
طرف مُؤهل وغير تابع قادر على التقييم الموضوعى للإيجابيات والسلبيات التى على أساسها يتم تبنى القرارات المناسبة التى تتمشى مع الأحوال العامة وظروف المجتمع.
إلا أنه يبدو أن متخذى القرار ليس لديهم رغبة فى اتباع مثل هذا المنهج، فهم يُفضلون انفرادهم بالقرار لأن ذلك يُتيح لهم حُرية الحركة لاتخاذ ما يعتقدون أنه فى الصالح العام من قرارات دون إزعاج أو انتقادات من أطراف خارج منظومة الحكم، بذلك هم وضعوا أنفسهم فى موقع الحَكَم على تصرفاتهم، وليس لأحد أيا من كان إمكانية إبداء رأى موضوعى دون تحيز يُمكن أن يُصحح الأمور أو يُعالج قصور هنا أو هناك.
من جهة أخرى فإن الإشادات الدولية يجب أن تُوضع فى مكانها الصحيح، فهناك دول لديها مصالح مع مصر وتفضل الحفاظ عليها بالتمشى مع التيار السائد بغض النظر عن أى اعتبار آخر، لذلك فإن الإشادة لن تُكلفها شيئا بل على العكس فإن ذلك يضعها فى مرتبة غير المغضوب عليهم وبما يدر عليهم فوائد ومميزات فى التعامل.
***
أما المؤسسات المصرفية الدولية فهى بالطبع ليست مؤسسات خيرية أو إصلاح اجتماعى، فهى تتعامل مع الدول المُحتاجة كتعامل الذئب مع الحمل، دون أن تكون بمنأى عن الأهواء السياسية، لذلك فهى تُقرض المُحتاج وتُملى عليه شروطها بغض النظر عن الانعكاسات السلبية لتطبيق هذه الشروط على أوضاع المقُترض، وفى حالة مصر فقد كان لهذه المؤسسات شُروط مُجحفة عانى من تطبيقها المجتمع، مثل إلغاء الدعم الحكومى وأمور أخرى بأسرع وتيرة ممكنة ضمانا لاسترداد أموالها بفوائدها فى توقيتاتها، دون أن تضع فى اعتبارها اقتراح روشتة علاج متكاملة لمعالجة الانعكاسات السلبية الهائلة لتطبيق شروطها بهذه السرعة المُطلقة على قدرات الغالبية العظمى من أفراد المجتمع فى ظل ظروف حياتهم المتواضعة.
ألم يكن من الأفضل، إذا كانت بالفعل لدى هذه المؤسسات الدولية رغبة فى إصلاح اقتصادى اجتماعى متكامل للبلاد لتحويلها إلى كيان منتج، أن توجه استخدام الأموال المُقرضَة للصرف على أولويات لا يراها الفاعل ولكنها مطالب مشروعة من غالبية أفراد المجتمع.. مثل وضع وتنفيذ برامج متخصصة لدعم قدرات وتأهيل ملايين الشباب العاطل، كذلك توفير دعم كاف لإنعاش وحدات الإنتاج الحرفية والزراعية والصناعية المُعطلة أو الكامنة وأعدادها لا تُعد ولا تُحصى بهدف تحريك عجلة الاقتصاد الراكدة، أما على جانب حياتنا اليومية فلاشك فى أننا فى حاجة ماسة للارتقاء بجودة الحياة المتدنية فى جميع مناحى الحياة التى تحيط بنا من كل جانب ومعالجة مواطن الضعف والهُزال العمرانى فى الحضر والريف ومقوماتها عديدة متشعبة.
لكن للأسف فإن مثل هذه الأمور لا تهم المؤسسات الدولية لأنها لا تُؤتى ثمارها إلا بعد حين مما لا يضمن لها استرداد ديونها فى توقيتاتها، لذلك فهى لا تَعنيها فى شيء ولأنها أيضا ليست من أهدافها، علما بأن الاستثمار فى مثل هذه الجوانب هو فقط السبيل الرئيسى لوضع مصر على الطريق الصحيح لإنهاضها من عثرتها..
كما لم تَعترض هذه المؤسسات على أسلوب الإدارة لجباية الأموال بجميع السبل التى أنهكت المواطنين بمستوياتهم، وتحول قطاع الإسكان إلى تاجر أراضٍ وسمسار عقارات بتوسع مخيف وبالمخالفة المنطقية لدوره الحقيقى بربط سياسات الإسكان بقواعدها الاقتصادية، وهو أمر أدى إلى حدوث تضخم هائل فى ذلك القطاع واستثمار أموال طائلة فى غير موقعها وفى أهداف غير مُنتجة، ما أدى إلى حدوث اختناق مُستتر فى السوق لا يُود المسئولون رؤيته أو الاعتراف به، وهو بدون شك اتجاه فى غير الصالح العام لاقتصاد البلاد، حيث يتم دفن هذه الأموال فى أصول مُجمدة، وكان الأولى بهذه المؤسسات الدولية التى لا يهمها مصالحنا اقتراح سُبل بديلة لتوجيه هذه الأموال فى أنشطة إنتاجية بمستوياتها وتحسين جودة حياتنا جميعا.