هناك اتجاه سائد فى الرأى العام ــ مدعوم من المسئولين والإعلام الرسمى وبعض القوى السياسية ــ لاعتبار أن الأزمة التى تمر بها البلاد حاليا، أمنيا وسياسيا واقتصاديا، سببها المعتصمون والمتظاهرون فى ميدان التحرير وفى الشوارع المتفرعة منه. الفكرة بسيطة وجذابة لأنها تختزل مشاكل مصر فى ميدان وأربعة شوارع، وفى مجموعة من الشباب لا يتجاوز عددهم المائة تم التحقق من أنهم ليسوا ثوارا بل بلطجية. وهى أيضا فكرة مريحة لأنها تعفينا من البحث عن الأسباب الحقيقية للاحتقان والانقسام اللذين يشهدهما المجتمع المصرى، وتعطل البحث عن الحلول المطلوبة باعتبار أن مجرد انتهاء الاعتصام أو فضه بالقوة كفيل بإخراج البلاد من ورطتها الحالية. ولكن العيب الوحيد لهذه الفكرة الجذابة أنها غير صحيحة، لأنها تخلط بين الأسباب والنتائج. فالفتنة التى تمر بها البلاد سببها سوء إدارة المرحلة الانتقالية خلال الأشهر القليلة الماضية، وما ترتب على ذلك من وضع اقتصادى متأزم، ووضع أمنى منفلت، ووضع سياسى محتقن، وانقسام بالغ فى المجتمع المصرى. أما استمرار الاعتصام فى الشوارع وسقوط الضحايا واحتراق تراث مصر التاريخى فهى نتائج طبيعية لهذه الإدارة السيئة والمضطربة.
ما أقصده بسوء إدارة المرحلة الانتقالية يمكن تلخيصه فى ستة مظاهر، أولها على المستوى القانونى والدستورى، وقد تمثل فى حالة الفوضى القانونية التى تعيشها البلاد منذ الإعلان الدستورى الأول وحتى قانون الانتخابات المعيب، والتى جعلت الناس تتوجس من سلامة المسار الديمقراطى وتنظر بعين الحسد إلى التجربة التونسية التى بدت مصر بالمقارنة لها ــ ونحن بلد التشريع والقانون والفقه الدستورى فى المنطقة العربية ــ فى حالة تخبط واضطراب لا يليقان بنا. ما أنقذ الانتخابات وجعل لها قيمة، برغم التجاوزات والمخالفات، هو إقبال الناس عليها وإدراكهم أنها تمثل فرصة تاريخية لأن يشاركوا فى صنع مستقبل بلدهم، ولكن للأسف أن هذا يحدث فى ظل وضع دستورى مضطرب وانقسام فى المجتمع حول الخطوات التالية المتعلقة بالجمعية التأسيسية، والانتخابات الرئاسية، وكيفية الاستمرار فى المرحلة الانتقالية.
ثانى هذه المظاهر هو استمرار الفشل فى التعامل مع الملف الأمنى، وانقضاء شهور دون أى تقدم يذكر إلا ظهور لشرطة المرور على بعض الكبارى والطرق السريعة بينما الحالة تتفاقم يوما بعد يوم، والسلاح ينتشر فى الريف كما فى الحضر، والجريمة المنظمة والعصابات تصبح أمرا عاديا، وكل محاولات بناء الثقة بين الشعب وبين جهاز الشرطة تذهب سدى، بل والمظاهر كلها تؤكد أن شرخا عميقا قد نشأ بينهما يلزم تداركه والتعامل معه بحكمة. الأدهى من ذلك الانتقائية فى التعامل مع الموضوع الأمنى، فالانتخابات يجرى حمايتها بمنتهى الكفاءة والصرامة، بينما مستودعات الأنابيب ساحات لمعارك يومية، والاعتداء على القضاة فى محاكمهم خبر عادى لم يعد يستوقف انتباهنا.
وثالث المظاهر هو العنف غير المعقول وغير المبرر فى التعامل مع المتظاهرين، واستمرار المواجهات أياما وليالى بما يوحى بأن الاستنزاف متعمد، والتضليل عمن يتحمل مسئولية ذلك، ثم التضحية بمصداقية الحكومة حينما يعلن رئيس وزرائها ــ كما فعل من سبقه ــ عن عدم استخدام العنف فى فض المظاهرات بينما أهالى شهداء قصر العينى ينتظرون استلام أجساد أبنائهم من مشرحة زينهم، وجنازة فقيد الأزهر تنطلق من حى الحسين إلى مدافن السيدة عائشة، وبينما الاستعدادات تجرى للانقضاض مرة أخرى على المتظاهرين.
أما رابع المظاهر فهو التخبط البالغ فى التعامل مع الملف الاقتصادى والخدمى، فتارة نسمع أننا مقبلون على انتعاش اقتصادى غير مسبوق، وتارة أن الوضع يقترب من الكارثة، ومؤسسات الدولة الاقتصادية صارت كلها محل اتهام وتشكيك ليس فقط فى كفاءتها ونزاهتها بل حتى فى مشروعيتها، والأجهزة الحكومية أصابها الشلل التام، والحكومة تتحدث عن مشروعات قومية واستراتيجية تتطلب عشرات السنوات لكى تؤتى ثمارها حتى تؤجل حل المشاكل اليومية الملحة من نقص للسماد إلى البوتاجاز إلى الخبز، وتعتمد على إيهام الناس بأن استرداد بلايين الدولارات من الخارج كفيل بحل كل المشاكل بينما الحقيقة أن المشوار طويل ونتائجه غير معروفة. حتى حلم القضاء على الفساد وفتح صفحة جديدة من النزاهة والشفافية لم يتحقق بشأنه أى تقدم يذكر سوى احتجاز بعض نجوم عالم المال والأعمال وتوجيه التهم إليهم، دون التفكير فى إدخال أى تعديل على القوانين التى أتاحت للفساد أن يستشرى، وكأن الثورة قد قامت لتغيير الوجوه فقط.
وخامس مظاهر سوء إدارة المرحلة الانتقالية هو استغلال حماس الناس للانتخابات وإقبالهم عليها وإدراكهم لأهميتها التاريخية من أجل إيجاد ثنائية وهمية وتناقض مفتعل بين مسار الانتخابات البرلمانية وبين استمرار الاعتصامات والمظاهرات، ودفع الناس للاختيار بينهما، بينما الحقيقة أن العمل السياسى ــ خاصة فى المرحلة الانتقالية التى لم تكتمل فيها المؤسسات السياسية والحزبية ــ يتطلب النظر إلى كل أنواع النشاط السياسى باعتبارها مسارات متوازية لا متعارضة، ويستلزم قبول أن الجماهير سوف تعبر عن آرائها فى صناديق الاقتراع وفى انتخابات النقابات والجمعيات الأهلية كما فى الشوارع والميادين. الانتخابات البرلمانية خطوة ضرورية وحاسمة فى طريق الديمقراطية، ولكنها ليست هدفا فى حد ذاتها وليست الوسيلة الوحيدة للعمل السياسى، وبالتالى فهى لا تستبعد جميع وسائل المشاركة الأخرى.
وأخيرا فإن سادس مظاهر سوء الإدارة هو اعتبار أن هيبة الدولة قد صارت متوقفة على دخول رئيس الوزراء مبنى الحكومة من بوابتها الرئيسية، وعلى إخلاء ميدان التحرير من المعتصمين بأى ثمن، وعدم إدراك أن إلقاء الدواليب والمراحيض وبلاط السطح عليهم هو ما يجعل الدولة تفقد هيبتها، وأن انشغال المسئولين بتأليب المجتمع ضد مجموعة من الشباب، ونعتهم بالصياعة والبلطجة وانعدام الأخلاق وعدم الثورية بدلا من التصدى للمشاكل الحقيقية التى يعانى منها الناس لا يليق ولا يبعث على الثقة فى هيبة الدولة.
دعونا نتفق على أن الكثير من الاعتصامات التى تجرى منذ شهور لم تكن واضحة الأهداف، وأن بعض مطالبها لم يكن قابلا للتحقيق، وأن حرق المجمع العلمى جريمة بكل المعايير، وأن الاستمرار فى حرب الاستنزاف فى الشوارع يعرض المجتمع لانقسام خطير. ولكن دعونا أيضا نتمسك بأن حق الاعتصام يجب أن يظل مكفولا أيا كانت أهدافه، وأن قتل المتظاهرين ليس مقبولا تحت أى مسمى وأى مبرر بل هو الجريمة الأكبر والأصلية. ثم دعونا نتوقف عن الخلط بين السبب والنتيجة وعن اعتبار الاعتصامات والمظاهرات سبب الأزمة بينما هى نتيجة واضحة ومنطقية لسوء إدارة المرحلة الانتقالية، فبهذا وحده يكون هناك أمل فى إصلاح ما فسد، وتدارك الأخطاء المتراكمة، وإعادة الأمل فى أن نخرج من هذه المرحلة سالمين.