عن النهضة والأمن - مصطفى حجازى - بوابة الشروق
الأربعاء 2 أكتوبر 2024 1:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن النهضة والأمن

نشر فى : الخميس 20 ديسمبر 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 20 ديسمبر 2012 - 8:00 ص

بادرنى اثنان من الصحفيين النابهين بسؤالين ــ عن النهضة والأمن ــ أتيا على غير اتفاق وبديا مختلفين فى السياق والهدف. ولكننى وجدت إجابتى ــ عن كل سؤال على حدة ــ تأتى وثيقة الصلة بالأخرى ظاهرة التكامل معها.. وهو ما كان أقرب الى الحوار مع لسان حال السؤال والسائل.. والذى فاض بالكثير من تشخيص حالنا وكيفية تناولنا للقضايا الأعمق والأخطر لحاضرنا ومستقبلنا. 

 

سائلى هما من جيل الشباب الذين اسُتنٍزفت طاقة الأمل لديهم فى أحاديث عن النهضة أو التنمية أو الإصلاح على مدار عقدين أو أكثر دون أن يعى  بينها فروقا. بل والأخطر أن محدثيه قد أسرفوا فى تسطيح الأمور ــ عن جهل واضح ــ حتى صوروا لهذا الجيل أن الأمر ميسور يسر أحاديثهم الجوفاء عنه وصيروا لهم الأمر نيلا للمطالب بالتمنى وإن أغَرَقوه فى الحديث عن الغلاب.. أى استحقاقات الأمر.

 

ولذا جاء الاستفهام  الأول عن استحقاقات النهضة، أى كيف ننهض بمصر وهو يبدو طبيعى بل وضرورى فى إطار سوق النهضة الذى نُصب عند انتخابات الرئاسة.. واستعصى على من نصبْه فضْه!

 

وأما الثانى فكان عن كيفية وضع نظرية للأمن القومى المصرى والذى لازال حديثنا عنه أقرب الى الحديث عن الأمن الجنائى.. باعتبار أن كله أمن!! وبمراجعة مسودة الدستور الأخيرة.. ولن أقول أحاديث المسئولين سيتأكد لنا أن مفهوم الأمن القومى.. تائه إن لم يكن غائب بالكلية!

 

كان سائلى الأول متوقعا لردود تشبه ما اقتات عليه عقله من قبل عند ذكر النهضة.. والتى عادة ما تبدأ  بتذكير بعظمة الآباء فى حضارتنا العربية الإسلامية.. مع تطواف بتاريخ المؤامرات التى حيكت وتحاك لنا.. ثم تشدق بأهداب البالى من علوم الإدارة على أن بها كل الحل والعقد..!

 

يعنى كلمتين من نوع ضع خطة.. ووضح أهداف.. ونظم وقتك الى آخر نصائح أرغى بها وأزبد معظم من أطل على مصر وعالمنا العربى ــ من الحكام والمحكومين ــ متناولا هذا الشأن الجلل بخفة لا تناسب جلاله. وظهر ذلك جليا فى درجة استغرابه ما سمع وان بدا به مقتنعا ومنه مستزيدا وله داعما.

 

وهنا قلت لصديقى السائل أن ما يتوجب الحديث عنه ــ إذا كنا نحترم أنفسنا وإنسانيتنا ــ هو كيف كانت سمات الفكر والفعل لمن قيل عنهم فى التاريخ أنهم أصحاب نهضة أو رواد حضارة ــ دون أن يُزكّوا هم أنفسهم بتلك الصفات.

 

وأول تلك السمات.. أنه لم يحدث فى تاريخ الأمم التى نهضت أو قدمت للبشرية حضارة إنسانية أن قالوا إنهم بصدد النهوض أو صنع حضارة.. ولكن مساهمتهم الإنسانية فى تغيير حياتهم وحياة البشرية هى ما سجّل التاريخ عنها أن هؤلاء القوم كانوا أصحاب نهضة أو رواد حضارة.. أما أن ينُتحل للأفعال الإصلاحية الأقرب الى إطفاء الحرائق والأعمال الإغاثية صفة النهوض وصنع الحضارة فهذا إن لم يكن اختزال مخل يستحق الرثاء.. فهو ابتذال يصم أصحابه بالتضليل والجهل.

 

يعنى فكرة «هيا بنا ننهض» لم يأت لها فى التاريخ ذكرا، اللهم أنه فى مصر أم العجائب أذكر أنه من عدة سنوات حين أعلن النظام السابق عن إنشاء ما يسمى واد للتكنولوجيا.. أعلن أحد أقطاب هذا النظام فى جريدة الأهرام فى صفحة كاملة عن وادى التكنولوجيا الخاص به وكتب فى إعلانه «مطلوب مخترعين»!!

 

كل من كان أهلا لنهضة وحققها، بلور إرادته  فى قرار بأن يكون له موقع قيادى فى الصراع الإنسانى وقام على استحقاقاته. وما كانت تلك الاستحقاقات إلا أن أراد وقرر وحقق لنفسه موقع الداعى لمؤسسات الإنسانية الثلاث وهى «الحرية والعدل والكرامة».  وكان معيار صدقه فى إرادته تلك ومعيار نجاحه فى تحقيقها مرتهنا بمدى  صدقه فى القيام على تلك القيم الثلاث تأصيلا فى ذاته.. ودعوة لغيره.. وصيانة لها فى مجتمعه وفى العالم أجمع.

 

ولم تكن نهضة الحضارة الإسلامية وما تلاها من نهضة حضارة غربية إلا تأكيدا لذلك المبدأ وتلك السنة الإلهية. فجاء حظ كل دول الحضارة الاسلامية مكافئا لمدى القيام على هذا الأمر، بل وما كانت فتوحات المسلمين فى أصلها إلا ذودا عن تلك القيم المؤسسة بعد محاولة تأصيلها فى النفس والدعوة لها من خلال الإسلام عقيدة وممارسة. هذا مع كل تأكيدنا على بشرية الممارسة وما يعتريها من نقص وذلل وأثرة، وإن كانت تلك البشرية الناقصة فى ذاتها مؤكدة لمحورية هذا المدخل لكل نهضة. وما اضمحلت حضارة المسلمين ــ والمفارقة وهم فى أوج قوتهم العسكرية (إبان الدولة العثمانية) ــ إلا بعد أن حادوا عن استحقاقات ريادة النهضة وهى القيام على قيم الانسانية الثلاث تأصيلا ودعوة وصيانة كما أسلفنا.

 

وعصر النهضة الغربى كان فى كل تجلياته مؤكدا ذات المبدأ فحين انتصر الغرب للعقل بعلمانيته كان فى حقيقة الأمر منتصرا للإنسانية بقيمها الثلاث التى بددها المجتمع الإقطاعى الثيوقراطى الغربى فى عصور ظلامه.  وما كان ما أخذه عن المسلمين فى حضارتهم إلا القيام على الأمور بالمنطق كما نقل عن آخر ملامح نهضة الحضارة الإسلامية متمثلة فى ابن رشد وفلسفته.

 

ثم توالى الأمر فبداية بالثورة الفرنسية (الحرية والإخاء والمساواة) ثم الأمريكية (الحق فى الحياة والحرية واقتفاء السعادة) وكل ما تلاهم، كان بداية سلوك درب النهضة إعلان حقيقى غير زائف لتأصيل قيم الإنسانية الثلاث والقيام عليها دعاة وحماة وناصرين. وبدت حقيقة سلوك هذا الدرب فى خوض حروب بينية من أجل صيانة تلك القيم للمجتمع الغربى (وإن حادت الحضارة الغربية عن جادتها بعنصرية بغيضة تجلت فى مشروعها الاستعمارى الذى سلك مسلك اليهود مع الأمم الأخرى بعبارة ليس علينا فى الأميين سبيل).

 

إذا ــ يا صديقى ــ كل من يريد أن يجترئ على سؤال كيف ينهض عليه ألا يجترئ على هذا السؤال إلا بمعلومية أنه ليس من سبيل للحلم إلا بقدر استعدادك على أن تمحور كل حلمك وفعلك حول استشراف وفهم وتأصيل قيم الإنسانية الثلاث بداخلك ومن ثم تقيم مؤسسات وطنك الذى تبغى بها نهضته على تحقيق تلك القيم بأشكال وتجليات مختلفة. أما أن تبقى خائفا من الحرية.. مكرسا للظلم ومبررا لترك العدل.. ثم تزعم بعدها أنك بسبيل نهضة فهذا فى أقل تقدير تدليس وكذب على النفس قبل الغير.

 

وفى مصر الآن ونحن لسنا بدعاً من البشر. إذا أردنا أن نكون على قدر حديث النهضة فليس من بداية قبل أن نعلن لأنفسنا والعالم أننا شركاء أنداد فى  صراع الترقى الإنسانى من أجل السعادة..

 

نعلن لأنفسنا والعالم ــ بلسان الحال تنظيرا وتطبيقا وليس بلسان المقال إعلانا وتمنيا ــ أننا لدينا ما نستطيع أن نقدمه من طرح مؤسس لحرية وعدل وكرامة الانسانية فى هذه اللحظة من التاريخ.

 

طرح قادر على أن يقود بأهلية استجلاء المقاصد والدفع نحوها.

 

طرح يحب العدل.. ولا يخشى الحرية.

 

طرح يعى أين يقف النسق المعرفى الإنسانى الآن وهو يغادر العصر الصناعى بل والمعرفى ويتجه صوب نسق معرفى حكمى. طرح مصرى يعرف كيف يقدم فلسفته التى سينتقل بها الإنسان من «عصر الشىء» (العصر الصناعى) إلى «عصر الإنسان» (العصر الحكمى) ومن ثقافة الفرد الكائن الحى الى ثقافة الكائن الإنسانى.

 

وكن على يقين ــ ياصديقى ــ بأن أمل النهضة الذى يراودنا سيبقى مرتهنا بذلك الاستعداد وقدرة القيام عليه ومهما ملأنا الجو خطبا عن النهضة أو استدعينا لأحاديث الأمجاد التى كانت.. وقرنّاها زيفا بقشرة علوم حديثة منتزعة الفلسفة والمقاصد. وسيبقى حلمنا زائفا ما بقينا نكرس الاستقطاب باسم المصالحة.. ونؤسس للاستبداد باسم تحرر الإرادة.. ونروج للظلم الاجتماعى باسم الاقتصاص من الظلم التاريخى.. وسيبقى حديث النهضة سوقا انتخابية رخيصة ما بقينا  بين سياسيين مهرولين لقطف ثمر السلطلة.. وبين قابض على الحكم متعجل للهيمنة.. يظن الدنيا قد دانت له وهو غير مدرك لعمق التحدى و«كنه» الإصلاح الواجب أو وتيرته.. وبين ظهير مجتمعى  مرتاب ومؤجج المشاعر..

 

وانتقالا للحديث عن نظرية مصرية للأمن القومى فنؤكد أنه لن توجد حقيقة للأمن القومى المصرى إلا باستجلاء مصر لحقيقتها وسبب وجودها والذى نسمه «هويتها الاستراتيجية».. والتى يترتب عليه ما يتوجب قيامها عليه تجاه نفسها والعالم. والذى إن تخاذلت عنه طوعا أو كرها لا يكن فقط تضييعا لها ولأمنها ولكن تضييعا لمن توجب عليها أن تقود أمنهم ونهضتهم فى محيطها والعالم. فإن أردنا أمنا قوميا فلا يجوز لمصر أن تسعى بأن تكون دولة حرة أو عادلة أو ذات شعب كريم وكفى ولكن أمننا القومى بأن تكون مصر هى دولة مؤسسة للحرية وحامية لها، بأن تكون مصر هى أصل عدل على الأرض ومحراب له وسيف له ودرع. إن إردنا أمنا قوميا بالمعنى الدقيق كان نداء النهضة الذى أسلفناه هو مدخلنا. فمعيار الأمن القومى لمن قَدَره أن يقود نهضة إنسانية عن استحقاق ليس بنفس معيار من قَدَره أن يحيا فى كنف تلك النهضة. فالقَدَر قُدرة والُقدرة مناط تكليف.

 

وعليه إن أردنا أمنا قوميا لمصر وجب أن تكون نهضة كل مؤسسة مصرية من الأمن للسياسة للتعليم للاقتصاد للاعلام منتصرة للانسان وقيمه فى العالم ثم فى مصر بالضرورة. وإذا صار الأمر كذلك حق لمصر كقائد نهضة إنسانية أن تقود وَتَحتوى وهل هناك أمن قومى أعمق من ضمانة ألا تُقاد وألا ُتحتوى.

 

أخيراً وليس آخرَ آن لنا أن نعرف أن البون شاسع بين الحديث فى شأن اصلاح إغاثى محدود ــ هنا وهناك ــ نُنقذ به قطاعا مجتمعيا مصريا من انهيار أمام حاجاته البشرية من مأكل ومشرب ومأوى.. (وهو إصلاح يكرس لانتزاع الانسانية فى كثير من الأحيان حين يختزل البشر فيه الى كائنات حية وكفى).. وبين الاجتراء على حديث نهضة حقيقته هى ضمان أن يحقق البشر إنسانيتهم. وكذلك الفرق كبير بين الحديث عن الأمن بمعنى الابقاء على حدود جغرافية مهددة وغير مخترقة.. تؤكد نوعا من الاستقلال وبعضا من السيادة وشكلا من أشكال الدولة.. وبين حقيقة أمن قومى فيه هيبة الاستقلال وقدرة السيادة وحقيقة الدولة.

 

فكروا تصحوا.

مصطفى حجازى أكاديمي ومفكر مصري
التعليقات