دعيت فى الأسبوع الماضى لإلقاء كلمة فى حفل تخرج دفعة جديدة من طلبة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، بلغ عدد المتخرجين فيها ما يزيد على الأربعمائة طالب وطالبة فى مختلف مجالات الدراسة العلمية والأدبية. وبرغم أنها ليست المرة الأولى التى أحضر فيها مثل هذه المناسبة ــ متحدثا أو مستمعا ــ إلا أنها كانت ذات طبيعة خاصة، حزينة من جانب وباعثة على الأمل من جانب آخر.
سبب الحزن أنها ليست دفعة عادية من الطلاب، بل هى ــ وبحسب الوصف الذى اختارته لنفسها ــ «دفعة الشهيد عمر محسن»، الشاب الذى قضى نحبه فى مذبحة بورسعيد، بعدما سافر مع أصدقائه وزملائه لتشجيع فريقهم، وكان مقدرا أن يكون بين المتخرجين فى الأسبوع الماضى وأن يتسلم شهادة البكالوريوس فى الاقتصاد. لم أتعرف على «عمر» من قبل، ولكن سمعت عنه الكثير، وعرفت عنه أكثر فى هذه الأمسية الحزينة. فقد كان طالبا مجدا، ورياضيا متفوقا، ومشاركا فى أنشطة الجامعة الاجتماعية، وأخيرا عرف طريقه إلى السياسة مدافعا عن حقوق العاملين من عمال النظافة والأمن فى الجامعة. ولكن أكثر ما استوقفنى كان حرص الجامعة على تكريمه على النحو اللائق، وكذلك حجم مشاركة زملائه فى التعبير عن مشاعرهم. عائلة «عمر» حضرت واستلمت شهادة تخرجه وكأس التفوق الجامعى، والجامعة أنشأت منحة للطلبة المتفوقين فى الرياضة باسمه، والطلاب المتخرجون وضعوا على قمصانهم وبذلاتهم شارة «دفعة عمر محسن»، والحاضرون فى القاعة (والذين تجاوز عددهم الألفين) غنوا له، ووقفوا احتراما كلما ورد اسمه، وعرضوا فيلما تسجيليا عنه، ورددوا شعارات ناديه الرياضى المفضل، وهتفوا بسقوط الحكم العسكرى، وهذا من جمهور ربما ما كان ليكترث بالسياسة وبانتقال السلطة من أشهر قليلة ماضية. ولكن سقوط الشهداء هو ما يدفع المجتمع لمزيد من الوعى، ومن التحدى، ومن الحرص على ألا تذهب التضحيات هباء. وتذكرت أن ما جعل الثورة تستمر فى مصر خلال العام الماضى كان اتساع دائرة الاستشهاد التى طالت سكان المدن والقرى، وطلاب الجامعات العامة والخاصة، وتلامذة المدارس، والنساء والفتيات، ومشجعى الكرة والرياضة، كل مهنة وطبقة ومنطقة فى مصر صارت طرفا مباشرا وصاحبة حق وحساب ومصلحة.
فكرت فيما يمكننى أن أضيفه إلى هذا الجمهور المكلوم، وكيف يمكن التعبير عن التقدير والتكريم لمصابه، فوجدت أن أفضل ما يمكن القيام به هو التأكيد على أننا يجب أن نتمسك بألا يكون سقوط «عمر محسن» وغيره من شهداء الوطن فى العام الماضى بلا طائل، بل يجب أن يكون من أجل فكرة أن يتقدم المجتمع وأن يبنى مستقبلا أفضل وأن يتعلم من أخطاء الماضى، وأن تحقيق كل هذا هو خير تكريم له ولهم. واجبنا تجاه الشهداء هو أن يصبح المجتمع المصرى مجتمعا عادلا، فلا يقبل التفرقة المستمرة بين الرجل والمرأة ولا إقصاء النساء من العمل السياسى على نحو ما حدث فى الانتخابات البرلمانية ولا ضياع حقوقهن، ولا يقبل التمييز بين المسلم والمسيحى ولا تهجير العائلات ولا العقوبة الجماعية ولا مظاهر الفتنة الطائفية القبيحة التى تزداد كل يوم، ولا يقبل استمرار الفقر الطاحن فى القرى المصرية وبخاصة فى الصعيد ولا استمرار عجزنا عن مواجهة متطلبات الناس البسيطة من خبز وبوتاجاز وعناية طبية، ولا يقبل إلا بديمقراطية كاملة لا يحتكرها حزب ولا يستولى عليها الساسة المحترفون ولا يتم التنازل عنها مقابل الوعد بالأمن والاستقرار، ويطالب بحقه أن يكون لديه برلمان منتخب ليس من أجل الظهور الإعلامى والصياح والتشاجر فيما يفيد وما لا يفيد، بل من أجل الاتفاق على ما يحل مشاكل الناس وما يدفع المجتمع للأمام وما يبنى أسس الدولة الحديثة وسيادة القانون والتنمية الاقتصادية.
برغم حزن الأمسية وحفل التخرج، إلا أن الباعث على الأمل فيها أن طلاب الجامعة وأساتذتها ضربوا مثالا على أن تكريم الشهداء يكون ــ وقبل كل شىء آخر ــ بالتأكيد على القيم والمثل التى سقطوا من أجلها، وتحفيز المجتمع على ألا يستسلم أو يضيق أو يضج قبل أن تتحقق أحلامه. تكريم الشهداء يجب أن يأخذ فى حسبانه ما يستحقه أهلهم من رعاية ومن تعويض وما يطلبه المجتمع من قصاص وحساب عادل. ولكن ينبغى ألا يقف الأمر عند هذا الحد، بل يجب أن يتجاوز التعويض والقصاص لكى يحقق مكاسب دائمة ومستمرة للمجتمع وأن يجعل الناس جميعا يتذكرون أن التضحيات كانت لسبب ولتحقيق ما نطمح إليه جميعا.
تحية لذكرى عمر محسن، ولعائلته التى أصرت أن تشارك زملاءه وأصدقاءه ودفعته فرحتهم بالتخرج برغم ما تمر به من حزن ومصاب بشجاعة بالغة وكرم مصرى حقيقى، ولزملائه الذين ضربوا مثلا على تكريم شهيدهم تكريما يليق به، وللجامعة على ما قدمته من مساندة ومشاركة وتكريم لعمر فى يوم حفل تخرجه.