على الرغم من تقدم مصر درجتين فى التقرير السنوى لمنظمة الشفافية الدولية الخاص بمؤشر الفساد العالمى لعام 2020، فإن ترتيب بلدنا تراجع إلى المركز الـ(117) عالميا مقارنة بـ(106) فى 2019.
حصلت مصر فى التقرير الذى صدر منذ أيام على 33 نقطة من أصل 100، وتمثل المائة نقطة أعلى درجات الشفافية وأقل مستويات الفساد، فى حين أن «الصفر» يشير إلى الفساد الكامل.
عربيا احتلت مصر المركز الـ11، لتتخلف على دول مثل الإمارات التى تصدرت الترتيب العربى تليها قطر ثم عمان والسعودية والأردن وتونس.. إلخ، فيما تمكنت من تخطى جيبوتى والصومال وموريتانيا واليمن وسوريا ولبنان.
تشمل مظاهر الفساد التى يغطيها مؤشر الفساد، وفقا للموقع الرسمى للمنظمة، الرشوة، واختلاس المال العام، وانتشار ظاهرة المسئولين الذين يستغلون المناصب العامة لتحقيق مكاسب شخصية دون مواجهة العواقب، وقدرة الحكومات على الحد من الفساد وفرض آليات فعالة لتكريس مبدأ النزاهة فى القطاع العام.. إلخ.
المنظمة قالت فى تقريرها إنها رصدت تحديات فساد متعلقة بجائحة كورونا فى منطقة الشرق الأوسط، إذ افتقرت المستشفيات والمراكز الصحية العامة إلى الموارد والتنظيم اللازمين للاستجابة بشكل فعال مع الموجة الأولى لكورونا، حيث عانت المستشفيات العامة من نقص فى الإمدادات والموظفين، مما عرّض مقدمى الرعاية الصحية للخطر، فضلا عن غياب الدقة والشفافية فى تقديم الأرقام والبيانات.
حرية الصحافة واستقلال وسائل الإعلام وتعامل الحكومات مع منظمات المجتمع المدنى، من أهم القواعد التى تعتمد عليها «الشفافية الدولية» فى ترتيب مؤشرها للفساد، فكلما تراجعت مستويات حرية الصحافة فى الدول تزايدت معدلات الفساد، «الدول الأكثر فسادا هى الأقل فى حرية الصحافة ونشاط المجتمع المدنى».
إذن غياب الصحافة الحرة التى تراقب أعمال الحكام كوكيل عن المحكومين، يفتح أبواب الفساد على مصراعيه، فالحكومات التى تتحرى الشفافية فى أدائها، لا تتخوف من رقابة الصحافة على أعمالها وقراراتها وسياساتها، فلا تُخفى معلومة ولا تمنع خبرا ولا تنزعج من رأى حتى لو كان به شطط.
فى كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» الذى نُشر مطلع القرن الماضى يقول المفكر الإصلاحى العربى عبدالرحمن الكواكبى أن «الاستبداد أصل لكل فساد»، ويضيف الرجل الذى قاوم الاستبداد العثمانى فى بلاده بالشام ثم قدم إلى مصر ليكمل جهاده حتى مات شهيدا أن «الاستبداد صفة للحكومة المطلقة العنان فعلا أو حكما، التى تتصرف فى شئون الرعية كما تشاء بلا خشية حساب ولا عقاب محققين».
منذ أن عَرف الكواكبى فى كتابه المرجع أنواع الاستبداد وسبل الخلاص منه، وبلاد العرب لا تزال تئن تحت وطأة حكومات مستبدة لا تخشى حساب الرعية ولا عقاب المحققين، تُلاحق أنظمتها كل من تسول له نفسه مراقبة أعمالها، وفى مقدمة هؤلاء الصحفيين «حراس الحقيقة» الذين اعتبرهم حافظ محمود شيخ الصحفيين ونقيبنا الراحل «الوكلاء الطبيعيين عن ضمير الأمم، والقضاة الذين يحاكمون الطغاة فى محكمة التاريخ»، بحسب ما أورده فى كتابه «أسرار صحفية».
ظلت حكومات المنطقة تحاصر الصحافة، بهدف تغييب الرأى العام، ظنا منها أن حُكم الشعب الجاهل أسهل وأيسر، فكلما ظلت الشعوب بعيدة عن الحقيقة قَبلت بالواقع الذى تفرضه عليها حكوماتها.
فى العقود الثلاثة الأخيرة، فرضت ثورة الاتصالات واقعا جديدا، فما تمنعه الحكومات من معلومات وأخبار يصل إلى الجماهير عبر منصات أخرى فضائية كانت أو إلكترونية، ثم اختلف الأمر جذريا بعد انتشار شبكات التواصل الاجتماعى، كما أحدثت الطفرة الجديدة هزات كبيرة فى المنطقة، انتهت بزلزال ثورات الربيع العربى الذى خرجت فيه الشعوب تنادى بسقوط حكومات التغييب.
سقطت بعض حكومات الاستبداد والفساد في المنطقة العربية، لكن يبدو أن من ورثوا تركتهم لم يتعلموا شيئا مما جرى، فلا تزال كتالوجات السلف ينقل منها الخلف، يصرون على تغييب الوعى وطمس الحقائق لإخراج الشعوب من معادلة الحكم، لم يدركوا أن ما لا يجده الناس فى منصاتهم الصحفية يحصلون عليه من وسائل أخرى.
ستظل معظم دولنا العربية موصومة بالفساد وسيظل ترتيبها متأخرا على مؤشر الشفافية، طالما حكوماتها تصر على حصار الصحافة وخداع الشعوب بأخبار وبيانات مصنوعة فى مطابخ السلطة.