ما جرى ولا يزال يجرى فى أمريكا أواخر عام مضى (2020) وأوائل عام جديد (2021) ليس أمرا هينا من المنظور التاريخى الأشمل، بل هو جلل. أمة يتغير وجهها البشرى تماما، ومجتمع ينقلب رأسا على عقب، فماذا تتوقعون؟ إن الشعار الذى ارتقى به «دونالد ترامب» إلى سدة الرئاسة فى مثل هذه الأيام من عام 2017، أى: «أمريكا أولا»، ومعناه «أمريكا للأمريكيين» يدل على الكثير، داخليا وخارجيا. داخليا، هو يعنى أن أمريكا الحديثة التى أسسها «الجنس الأبيض» وخاصة من العرق «الأنجلوسكسونى»، هى لهذا الجنس بالذات قبل (الآخرين). وخارجيا، يعنى هذا الشعار أن أمريكا التى ابتدرت سياسات ما تسمى «العولمة» منذ تسعينات القرن المنصرم سوف تعود، أو تحاول أن تعود، سيرتها الأولى، بغير عولمة، أو قُل أنها ستكون بغير عولمة من هذا النوع الذى هيمن على العالم فى وقت ما من أواخر ألفية تمضى ومطالع ألفية جديدة تُهل، «عولمة جامحة» أو «هائجة» Hyper Globalization. إن شعار (أمريكا أولا) يشى ــ لدى أنصاره المتعصبين ــ بأن القوى الدولية التى تسربت من بين أنامل التاريخ «المنزلق» وخاصة الصين، لن تقوى على الإطاحة بأمريكا، بل ربما يكون شأنها شأن «الاتحاد السوفيتى السابق» حين تهوى من حالق، لينهض «طائر الفينيق الإغريقى العتيد» ــ أى أمريكا ــ من جديد..! وإن لم يكن هذا الطائر قوة عظمى وحيدة فسيكون بالنسبة إليهم الأعظم بين العظماء، أو «الأول بين المتساوين» Primus inter pares، كما كانت بريطانيا فى عهد «توازن القوى» الكلاسيكى خلال القرن التاسع عشر.
هكذا أرادت وتريد أمريكا البيضاء، التى تحدث بلسانها الطليق (ابنها البار) دونالد، ومعه ومن ورائه جمهور «انتخابى» غفير، لا يقل فى عديده عن نصف المقترعين، وربما يزيد..!
هذه أمريكا التى غيرت الهجرة لونها، من بيضاء إلى «متعددة الألوان»، سوداء وسمراء وصفراء وبيْن بين، ستعود من وجهة نظرهم إلى ما كانت عليه: بيضاء فقط، أو بالأحرى «بيضاء أولا».
وأما أمريكا السمراء من (أمة الهنود الحمر) أو شعوبهم وقبائلهم، فقد ذهبت فى رأيهم إلى وادى الماضى السحيق منذ خمسة قرون، وأبيدت ولن تعود..!
وأما «أمريكا السوداء» المجلوبة من أعماق «القارة الخضراء»، إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى ــ ذات الأمطار و«غابات السفانا» ــ فهذه قُمعت بدورها، ورضيت بقسمتها، وصارت «أقلية زنجية» أو «إفريقية»، فما كانت سائدة ولن تكون..!!
وأما أمريكا «نصف البيضاء»، اللاتين من جنوب القارة الفتية والتى نازعت «البيضاء» شيئا من الغلبة الداخلية خلال نصف القرن الأخير، وخشىَ منها مفكرو البيض أن تغير وجه أمريكا إلى غير رجعة، فهذه أيضا لن تسود.. وكذلك «أمريكا الصفراء» القادمة على استحياء من أقاصى آسيا الشرقية.. وكذلك «الشرق أوسطية» من مسلمى ومسحييى الشرق، فهذه أيضا قل أن تسود..!
***
هذه أمريكا التى تتغير إذن، وأراد «دونالد ترامب» وأنصاره الكثيرون، ألا تتغير.. هى أمريكا التى تحدث عنها، وبلسانها، مفكرون ثلاثة خلال نصف القرن الأخير بدء من «آلفين توفلر» عن أثر «القوة العلمية ــ التكنولوجية الصاعدة»، فى كتابه (صدمة المستقبل) الصادر فى مطلع السبعينيات حتى «تحول السلطة» فى مطلع التسعينيات، ثم «صمويل هنتنجتون» (1927 ــ 2008)، فى كتابه الشهير «صدام الحضارات» الصادر عام 1996. وقد صدر هذا الكتاب بعد مقالته المنشورة فى مجلة (فورين أفيرز) بنفس العنوان عام 1993 حين استرق السمع لينصت إلى صوت المستقبل «الملون» حيث الحضارات العالمية المتنوعة ترقى إلى العنان وتحتك أو تصطك، أو تصطدم بعنف أو غير عنف، من الشرق البعيد والغرب القريب، والعالم الإسلامى فى الوسط أو المنتصف. وأخيرا، «فرانسيس فوكوياما»، اليابانى الأمريكى (1952ــ ....)، أو الأمريكى من أصل يابانى، مدشن فكرة العولمة الليبرالية، بكتابه «نهاية التاريخ» الصادر فى عام 1992 بعد مقالة بنفس العنوان فى مجلة (ناشيونال أنترست) عام 1989.
تلك إذن أمريكا التى تعانى المخاض الكبير، ويقف من بين «البيض» فيها من يقول إن الأوْلى هو محاولة الاستيعاب والإدماج والاندماج لتكون أمريكا أمة للجميع، ولو بصعوبة بالغة. وهذه تحدث بلسانها ــ منْ صعد – بصعوبة بالغة أيضا – إلى سدة الرئاسة بأغلبية طفيفة، من بين «الحزب الديمقراطى»، جو بايدن. ولكن إلى أين...؟ والتاريخ الماكر، من حولنا وخلفنا أو أمامنا، يهدد ويتوعد بما لا يتوقعه أحد.. إلى أين، وهذا هو الماضى البشرى الطويل، عبر آلاف السنين، يقدم أكثر من لوحة صارخة بالمفاجأة. فهل الهجرة ترياق «شافٍ»، أم هو السم الزعاف؟ أم يصعب الحكم ويترك للتاريخ..؟
نشير هنا مثلا إلى هجرة الأوروبيين إلى القارة الأمريكية خلال ثلاثمائة سنة بعد 1500 تقريبا وتأسيس الدول الحالية فى «العالم الجديد»، وكانت بالنسبة لأوروبا الرأسمالية ترياقا شافيا، إذ خففت من الضغط السكانى هنالك وسمحت بالتطور الاقتصادى الرأسمالى الأوربى المشهود؛ بيْد أنها تحولت، فى (العالم الجديد) إلى سم زعاف عند غير الأوروبيين والبيض، كما أشرنا.
***
ثم إن لدينا نحن فى الخبرة العربية المعاصرة سما زعافا وما يشبه السم الزعاف. فأما السم الزعاف فهو الهجرة اليهودية الصهيونية إلى أرض فلسطين، وأخذها مأخذ العنوة والغصْب، وإخراج أهليها من أرضهم تلك عام 1948، وإحلال المستوطنين القادمين من كل حدب وصوب محلهم بدعوى العودة الوهمية إلى «جبل صهيون» المزعوم وفق الأيديولوجيا السياسية الاستعمارية المعروفة. وأما الترياق أو شبه الترياق الذى تحول إلى سم أو شبه سم زعاف، فهو هجرة بعض القادمين من شرق آسيا إلى بلدان خليجنا العربى، ليتحولوا إلى كتلة ديموجرافية غالبة، تهدد التكوين البشرى الخليجى ــ العربى فى الصميم، فى بعض الأجزاء ليس غير، على أى حال.
وأما المهاجرون من بلداننا العربية، ومن غيرها، إلى أوروبا وأمريكا خلال المائة عام الماضية، فهذه هجرة من أجل العمل، فى غُربة مدفوعة أو غير مدفوعة الثمن، إلى أجل معلوم أو غير معلوم... وهناك هجرات مؤقتة للعمل المتقطع من بلدان عربية إلى بلدان عربية أخرى، كما فى الخليج الآن، وليبيا والعراق سابقا، وهذه ذات أثر متشابك يحسن تركه للباحثين.
ولكن ما يسمى بالهجرة الشرعية أو ما تسمى «غير الشرعية» من بلداننا العربية والإفريقية إلى أوروبا المتوسطية وغير المتوسطية، فى أشكالها المتنوعة مما يُطلق عليه الهجرة المختلطة mixed migration فهى محل درس وبحث أكاديمى عميق. وتُذكَر هنا، للمناسبة، هجرة الفارين من جحيم القتال والعنف فى سوريا، ومن العراق فى وقت سابق، إلى أوروبا، ولجوء بعضهم فى المنافى الأوروبية وغيرها. ولكن لجوء الأشقاء السوريين إلى البلدان العربية المجاورة، هو من قبيل النزوح الاضطرارى المؤقت، وستتلوه عودة حميدة فى القريب. ولكن قضية اللاجئين الفلسطنيين وتعدادهم بالملايين، كجزء من القضية الفلسطينية الكبرى، ومنذ قيام إسرائيل عام 1948 حتى الآن، تظل علامة على الظلم التاريخى المشين، وجناية ارتكبتها موجات (الهجرة) الصهيونية الاستيطانية العُنفية إلى أرضنا على امتداد مائة عام تقريبا. وإن لهؤلاء اللاجئين الفلسطينيين حقا مكفولا للعودة إلى ديارهم، فى يوم لن يكون بعيدا بميزان التاريخ على كل حال..!