«سيد» كان أولهم، ولكنه لن يكون آخرهم.. فخلال الشهر الماضى سقط ضحايا الأنابيب فداء اسطوانة بوتاجاز مدعمة. تماما كما سقط منذ عامين ضحايا فى طوابير رغيف العيش. ثم حلت أزمة نقص الرغيف على إثر إراقة دم المصريين. ولم يكد يبدأ الانحسار التدريجى لأزمة نقص البوتاجاز ببركة أرواح الضحايا، حتى قتل أحدهم على أيدى أقربائه فى قتال على قطرات سولار.
ولعل الكلام سيسكت قريبا عن مشاكل دعم أنابيب الغاز والسولار، تماما كما سكت حول مشاكل دعم الرغيف. فالقاعدة الصحفية تقول «يسيل الحبر حيث تسيل الدماء».
ولكن.. وقبل أن تجف الدماء والأحبار، تحاول الحكومة أن تستغل هذه الأزمات، بهدف خلق حالة من القبول لفكرة إلغاء الدعم.
فالحكومة تخطط لأن ترفع الدعم عن كل المنتجات البترولية (على فترة تتراوح بين سنتين وخمسة أعوام على أقصى تقدير)، لتباع بسعر تكلفتها. كما تباع جميع السلع التموينية (ما عدا الخبز) بسعر السوق. وكنوع من التعويض للفقراء، تدرس الحكومة توزيع مساعدات نقدية على الأسر المستحقة، قد تبلغ قيمتها مائتى جنيها شهريا. تلك المعلومات على عهدة وزير التنمية الاقتصادية عثمان محمد عثمان.
ولعل العديد من الأسئلة تدور فى رأسك الآن.
منها: وهل استبدال الدعم العينى المتاح لكل المصريين سواسية بالدعم النقدى الموجه للفقراء هو النظام الأفضل؟ ثم ماذا دفع بالحكومة إلى تغيير موقفها، من الاستجابة إلى الضغوط السياسية بتجميد النظام الحالى إلى المواجهة والضغط من أجل التغيير؟ والأهم، هل من الممكن إلغاء الدعم بدون أن يثير ذلك سخطا شعبيا واحتجاجات عنيفة، قد تودى بالاستقرار الاجتماعى؟
والإجابة عن هذا الأخير هى فى الأغلب لا. أما الإجابة عن السؤال الأول، فهى نعم. فتجارب دول نامية عديدة أثبتت كفاءة الدعم النقدى فى علاج الفقر وتقليص التفاوت بين الدخول. كما أن الدعم بشكله الحالى ثبت أنه غير كفء فى محاربة الفقر.
أما إصلاح الدعم، فأغلب الظن ــ رغم التصريحات ــ أنه لن يأتى قريبا. فموضوع الدعم أكبر من أن تقرر فيه الحكومة المصرية وحدها. إذ تتشابك فيه كل مراكز القوى فى مصرنا الحديثة، بدءا من مؤسسة الرئاسة مرورا بمجموعات ضغط رجال الأعمال إلى المؤسسات حارسة الأمن. وبسبب غياب الديمقراطية، لطالما فرضت المواءمات بينهم نتائج سيئة ومنافية للمنطق الاقتصادى السليم. ولنا فى أنبوبة البوتاجاز مثال.
سعر الأنبوبة ثابت عند جنيهين ونصف الجنيه منذ منتصف الثمانينيات. بينما تتكلف الحكومة أربعين جنيها لإنتاجها. وإجمالا، تتحمل الدولة هذا العام عشرة مليارات من الجنيهات من أجل توفير اسطوانة البوتاجاز بسعرها الحالى، فيستفيد منها الأغنياء (بسبب ارتفاع استهلاكهم) أكثر من الفقراء. ويزيد الأمر سوءا أن المستهلك لا يستفيد من سعرها المنخفض، بل يشتريها من التجار الوسطاء بسعر يتراوح بين 10 و20 جنيها، بحسب الموسم والحى.
وبمرور السنين، أصبحت الدولة تنفق من أجل تثبيت أسعار السلع المدعمة مبالغ خرافية. والهدف إخماد الرأى العام، وليس مساعدة المحتاجين.. فنظام الدعم منذ بدأ مصمم لمساندة الطبقة الوسطى فى المدن. ولهذا، مع توسع أعداد الفقراء، ونتيجة «إصلاح بعد إصلاح»، أصبحت لا تستفيد الفئة الأفقر من المجتمع إلا بجنيه من كل خمسة جنيهات مخصصة للدعم، بينما تستفيد الفئة الغنية بجنيهين من كل خمسة!
واليوم لأن خزانة الدولة تعيش سنين عجافا، تشح فيها أموالها، نراها تثير موضوع إصلاح الدعم بإلحاح. ففاتورة الدعم على الغذاء والطاقة تقدر فى العام الحالى بنحو مائة مليار جنيه، أى أكثر من ضعف ما ينفق على التعليم والصحة مجتمعين.
وعندما جاءت حكومة أحمد نظيف منذ 2004، برؤية لإصلاح الدعم، ونجحت فى إقناع مؤسسة الرئاسة بضرورة تبنيها، بدأت بالسولار والمازوت والبنزين. وسرعان ما اقشعر المسئولون مع كل من الزيادات الثلاث التى طرأت على أسعارها منذ 2004 وحتى 2008، والتى أدت إلى اندلاع اعتراضات جماعية وارتفاع معدلات التضخم إلى ما فوق العشرين فى المائة، ومضاعفة أسعار الغذاء. وانتهى الأمر بتجميد تلك الخطة. والأسوأ، أنه سرعان أيضا ما تخلى عن الحكومة أهم مؤيديها: لوبى رجال الأعمال، الذى كشف عن أنيابه، عندما اقتربت الحكومة من بعض امتيازاته، فى قصة مثيرة بدأت فى أواخر 2007.
وقتها أعلن وزير الصناعة والتجارة أنه توصل إلى إقناع رجال الصناعة بخفض تدريجى لدعم الغاز الطبيعى الموجه للصناعات كثيفة الطاقة. حيث يذهب 80% من الطاقة الموجهة إلى جميع المصانع إلى نحو أربعين مصنعا فقط (أسمدة وأسمنت وحديد وسيراميك وزجاج)، وفقا لدراسة رسمية مقدمة لمجلس الشورى فى 2008، ولك أن تضع قائمة بأسماء المستفيدين محل أسماء المصانع لترى ثقل هذا اللوبى.
كانت الخطة تقضى بأن تضاعف الحكومة أسعار الغاز الطبيعى إلى الصناعة، تدريجيا، على ثلاث سنوات (ولكنها ستظل ـ وفقا لبيانات مجلس الشورى ــ أقل من أو تساوى أسعار الغاز فى معظم الدول الغنية بالبترول!!). ولكن مع بداية 2008، جاءت أزمة الغذاء العالمية بما لا تشتهى الحكومة ولا حلفاؤها.
ولاستيراد الغذاء، صار من الضرورى تدبير موارد كبيرة فى لحظة قصيرة. وهو ما استدعى الحكومة أن تقرر التعجيل فى تنفيذ تلك الخطة، على سنة واحدة، ضمن ما سمى بقرارات 4 مايو.
وعندها، سارع مجتمع الأعمال الغاضب إلى معاقبة الحكومة، بشن هجوم إعلامى عليها، والضغط عليها بإلغاء بعض خططه الاستثمارية، ما أرعب المستثمرين الأجانب فى البورصة، فيما ترجم إلى أقوى انهيار فى البورصة المصرية فى تاريخها الحديث.
وبعد ذلك بأربعة أشهر، عندما سقط العالم فى الكساد، استغله رجال الأعمال للالتفاف على قرارات مايو. و«اقتنعت» الحكومة بالعدول عن رفع أسعار الغاز الطبيعى، حتى لا تتكبد الصناعات كثيفة الطاقة خسائر. واليوم، بعد أكثر من عام، ورغم احتفاظ هؤلاء بمعدلات ربحية عالية، إلا أنهم أقنعوا الحكومة باستمرار تجميد خطة رفع أسعار الغاز إلى أجل غير مسمى.
ولا تجعل الأسئلة تزدحم فى رأسك ثانية: فلماذا تدعم الحكومة أربعين مصنعا يفوق معدل ربحيتها المعدلات العالمية بعشرة أضعاف؟ ولماذا تبيع الدولة الطاقة إلى تلك المصانع بأسعار تشابه أسعار السعودية وقطر، رغم أن مصر على النقيض فقيرة بموارد الطاقة؟ فهى أسئلة ستحرمك من بهجة الاحتفال بعودة شهر العسل بينهما بعد مرور سحابة الصيف.
النتيجة هى العودة إلى المربع واحد: خزانة فاضية، ورجال أعمال لن يتنازلوا عن مليم من أرباحهم، وترمومتر اجتماعى ملتهب. ثالوث غير مقدس سيفضى بالحكومة حتما إلى الضغط على أحد أضلاعه. فأى ضلع ستلوى الحكومة. فالخزانة الفاضية تحملت بالفعل عبئا كبيرا.
هل هو ضلع المصانع كثيفة الطاقة، كثيفة الربحية؟ على الأرجح لا، فهو كضلع البنت الذى قد يطلع محله أربعة وعشرون. كما انه لن يحقق وفرا كبيرا لخزانة الدولة. الأفضل إذا أن ترفع أسعار كل السلع التموينية، والبنزين والسولار والبوتاجاز، كله إلا الخبز. وهو ما سيوفر لها مبلغا معتبرا.
وتعتمد الحكومة فى دراسة أثر إلغاء تدريجى للدعم على كل المنتجات البترولية على خمس سنوات، على دراسة أجراها العام الماضى المركز المصرى للدراسات الاقتصادية. فالسيناريو الأفضل بحسب الدراسة هو توزيع نصف الوفر، المتحقق من إلغاء الدعم، على الشريحتين ذات الدخول الأقل من المصريين. وهو سيناريو سيحول العجز فى الموازنة إلى فائض نحو 5%. أى يحل بضربة عصا كل مشاكل يوسف بطرس غالى. ولكنها تظل فى كل الأحوال ضربة عصا على دماغ المصريين، حيث يؤدى رفع أسعار الطاقة إلى خفض الاستهلاك والنمو والتصدير، وارتفاع تكلفة النقل. وإجمالا، سيؤدى رفع أسعار الطاقة إلى زيادة فى معدل التضخم بـ37 %، بحسب الدراسة. وهو ما يوصله إلى خمسين فى المائة!
التكلفة الاجتماعية إذن تظل باهظة على المصريين عموما خاصة متوسطى الدخل الذين لن ينالوا أى تعويضات عن ارتفاع الأسعار. بحيث يصبح تحملها دون توافق شعبى أمرا محفوفا بالمخاطر. فلا يمكن إذن التحول عن نظام الدعم الحالى إلى نظام آخر أكثر كفاءة وأكثر عدلا فى غياب الديمقراطية والتعليم المجانى الكفء. وبما أن هذا النوع من الإصلاح ليس على القائمة، فما بين الحسابات الضيقة للاستقرار الاجتماعى والمصالح الضيقة لبعضهم، سيغيب أى إصلاح حقيقى لنظام الدعم. ولا عزاء للضحايا، السابقين منهم واللاحقين.