هى قصة حقيقية..
ليست خيال مؤلف حالم.. ولا صنعة إعلامى قدير.. ولا هى من أكاذيب شهر أبريل.. قصة يجب أن يعلم بها الناس ويتأملوا تفاصيلها، وهى للمسلمين والأقباط معا.. وكم هى مبهجة ومدهشة وأصيلة وعفوية.. لذا يجب أن تروى ويعلم بها الناس.
الرجل أمام مسجد.. وقور وتقى وفعال للخير.. سعى بنفسه يجمع التبرعات لشراء عربة لنقل الموتى تتبع المسجد الذى يعمل به وتكون فى خدمة أهل المنطقة.. ودخل إحدى العمارات السكنية يطرق أبواب الشقق داعيا أهلها إلى التبرع لهذا المشروع.. انتهى من إحدى الشقق واتجه إلى الشقة المقابلة ودق الجرس.. إلا أن صاحب الأولى قال له:
ـ بلاش الشقة دى يا مولانا.. علشان اللى ساكن فيها قبطى.
إلا أن باب الشقة فتح فى الوقت الذى هم فيه الشيخ الفاضل بالانصراف.. صاحب الشقة وجد أمامه رجلا وقورا ملتحيا يدق بابه فاستقبله بلطف وباشة قائلا:
ـ أى خدمة يا مولانا..؟
ولكن مولانا ارتبك قليلا وملكته الحيرة وهمس وعلامات الإحراج واضحة.
ـ خلاص بقى.. أصلى ضربت الجرس من غير ما أعرف..
ـ تعرف إيه يا مولانا..؟
ـ إن حضرتك قبطى..
واندهش الرجل صاحب الشقة المسيحى وغابت البشاشة عن ملامحه وهو يتساءل:
ـ وفيها حاجة يا مولانا لما أكون قبطى..؟!
وهنا تدخل الجار الذى كان يرقب الموقف طالبا من مولانا أن يخبره بحقيقة الأمر حتى لا يحدث أى تفسير خاطئ لهذا الموقف البسيط والتلقائى.. قال الشيخ:
ـ أنا أصلى بجمع تبرعات للجامع.. عاوزين نشترى عربية لدفن الموتى.. علشان كده أنا متأسف.. ومش معقول يعنى حضرتك هتتبرع للجامع.
وهنا ابتسم القبطى وسأل الشيخ:
ـ ممكن دقيقة واحدة يا مولانا.
وغاب الرجل داخل شقته دقيقة وعاد ليعطى الشيخ التبرع الذى استطاعه، وانتهى الموقف على هذه الصورة الرائعة.. ومرت الشهور وتم شراء السيارة ولم يبق إلا الكتابة عليها.. الآيات القرآنية.. واسم الجمعية التابعة للمسجد وما إلى ذلك.. وشاءت إرادة الله أن يتوفى الرجل القبطى صاحب التبرع.. وكلنا يعلم اختلاف الطقوس.. إلا أن مولانا الشيخ قرر أن ينقل الرجل إلى مثواه الأخير بعربة المسجد التى تبرع من أجلها فى حياته.. وأكثر من ذلك أقامت نفس الجمعية «صوان» العزاء فى مشاركة إنسانية من أهل المنطقة جميعا.
هكذا حدث الأمر بين الناس.. بلا توجيهات من أحد.. وإنما الفهم الواعى والأصيل لرسالة الأديان السماوية تم فى تلقائية شديدة ومخلصة، وما حدث ليس معجزة سماوية وإنما هو تصرف عادى وطبيعى لبشر عقلاء لديهم الإيمان الحقيقى بالله باعث كل الرسل والأنبياء يحملون رسائل العدل والسلام والتسامح، وهكذا كانت مصر دائما قبل أن تنعق الغربان السوداء بالكراهية والتعصب.. ويطيب لهى أن أحكى حكاية أخرى عشتها بنفسى ويشهد عليها الكثير من الزملاء والأصدقاء.
فى بداية السبعينيات كنت كاتبا مغمورا أشق طريقى بجهد جهيد.. وكنت أبحث عن سكن مناسب فى مدينة محبطة فقد كنا جميعا نحمل هزيمة 67 فوق ظهورنا.. صخرة ثقيلة من نار تعذبنا نحن الشباب فى تلك الأيام.. وأثناء وجودى فى مبنى الإذاعة لتسجيل عمل إذاعى سألنى الفنان الراحل محمد عنانى ــ رحمه الله ــ وكان يعلم بمشكلتى:
ـ تعرف كرم النجار..؟
وكنت أعرف الأخ والصديق والإنسان كرم النجار بالاسم فقط.. فهو مؤلف يقف على أرض صلبة وهو كاتب المسلسل الدينى الشهير محمد رسول الله عن كتاب للأستاذ توفيق الحكيم.. قال عنانى، وكان مرحا خدوما طيب القلب:
ـ «أنا لازم أعرفك عليه.. دا شاب هايل.. وممكن تسكن معاه.. أنا واثق إنكم هتتفقوا مع بعض».
وقابلت كرم النجار الشاب البشوش المحب للحركة الذى وافق على أن أكون شريكا له فى السكن، وسارت بنا الأيام عادية جدا.. لا يوجد بيننا شىء مختلف.. ولأنه مؤلف مسلسل «محمد رسول الله» بديهى أن يكون مسلما.. وهو صديق لكل أهل الشارع، وعلى رأسهم الشيخ «نظير» مؤذن المسجد المواجه للشقة التى نسكنها.. صحيح إننى لم أره يدخل المسجد ولكن أنا الآخر لم أكن أدخل المسجد.. ومضت مدة طويلة حتى عرفت بالمصادفة عندما وردت إليه رسالة عليها اسمه بالكامل.. ولما كان الأمر يستحق الاهتمام فقد علمت منه أن الأزهر الشريف بعث إليه برسالة شكر على إنجازه مسلسل محمد رسول الله وبها إشادة بحسن إسلامه.. وسارت بنا الحياة على أحسن ما يكون.. كنت أسعد كثيرا عندما أدخل حجرتى وأجد ورقة دون عليها إعجابه بسهرة إذاعية سمعها لى ولم يمهل نفسه حتى يرانى.. كان يحس بى عندما أكون مفلسا فيقدم لى النقود دون طلب.. ويوم أن قرر الزواج وأخذ يعد بيت الزوجية كدت أطير فرحا وهو يسألنى:
ـ الهدية بتاعتك يا وحيد أباجورة.. فيه أباجورة عجبانى هقول لك هيه فين علشان تروح تشتريها.
هكذا كانت أيامنا الحلوة.. رغم صخرة النار التى كنا نحملها على ظهورنا.. كانت الدنيا أكثر صدقا وصفاء ونقاء ووفاء.. كانت مصر كلها تعيش هذه الحالة الرائعة.. فماذا حدث؟ ذهبت العقول وامتلأت الرءوس برماد النار.