رأيان سخيفان.. فى أسبوع شم النسيم - جلال أمين - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 12:47 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رأيان سخيفان.. فى أسبوع شم النسيم

نشر فى : الثلاثاء 21 أبريل 2015 - 9:35 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 21 أبريل 2015 - 2:37 م

لم تعد سنى تسمح لى بأن احتفل بشم النسيم على النحو الذى كنت احتفل به فى الماضى. فلم يتح لى فى هذا العام أن أرى المحتفلين به إلا من نافذة سيارتى التى اجتزت بها ذلك الشارع الجميل الذى يفصل بين الحديقة التى تضم متحف مختار، وبين أرض المعارض التى تضم دار الاوبرا، ثم ميدان سعد زغلول، فكوبرى قصر النيل.

اضطررت لحسن الحظ إلى تهدئة السير من كثرة السيارات من ناحية وكثرة الناس الذين يحاولون العبور من رصيف إلى آخر.

كان الوقت قبيل المغرب، والجو بديعا، والاعداد الغفيرة من الناس تتكون كلها تقريبا من عائلات، الرجال والنساء فيها يجرون وراءهم أويحملون أطفالا، والنساء كلهن تقريبا محجبات. كان هناك شبان وشابات، خطيب أو صديق يمسك بيد خطيبته أو صديقته، أو مجموعة من الشباب الذكور مستندين إلى سور الكوبرى ومستغرقين فى الضحك، يأملون على الارجح فى ان تلتفت اليهم بعض الفتيات السائرات، بل وربما حظوا من احداهن بابتسامة، أو منهمكين فى التقاط الصور، كانت البهجة عامة، والسرور واضحا على جميع الوجوه، خاصة الاطفال، الذين ضمنت انهم نادرا ما يحظون بمثل هذا الاجتماع لعائلاتهم كلها، بمن فى ذلك الاب الذى يستطيع اليوم الخروج معهم فى اجازة، وقد قرر ان اليوم جدير بأن ينفق فيه على اولاده اكثر مما ينفقه فى أيام اخرى. لا عجب ان كثر باعة البالونات وغزل البنات والبطاطا.. الخ.

الغالبية العظمى ممن رأيت فى تلك الفترة القصيرة من شم النسيم، كانوا ينتمون إلى طبقة اجتماعية محددة، نعرفها جميعا ليسوا بالطبع من سكان المبانى المسورة وذات الحراسة الخاصة، ولا من مالكى السيارات، بل يتنقلون عادة بالميكروباصات، ويركب بعضهم الموتوسيكلات ومعهم أحيانا زوجاتهم بل وربما طفل صغير أيضا. انهم ليسوا طبعا من علية القوم الذين لهم وسائل اخرى للاحتفال بالأعياد، ولا هم ممن بلغ بهم الفقر أو العجز ما يمنعهم من الخروج من بيوتهم اصلا. هؤلاء الذين رأيتهم يكفيهم للشعور بالبهجة الخروج إلى مكان مفتوح، خاصة بجوار النيل، وفى جو جميل، فيرتدى الاطفال ملابس ذات الوان زاهية وترضيهم ابسط المأكولات والمشروبات وتكفيهم طبلة صغيرة فى مركب شراعى، أو فى حديقة صغيرة، أو حتى على النجيل وسط الشارع المزدحم بالسيارات.

هذه الطبقة اصبحت هى التى تكون غالبية الشعب المصرى، على الرغم من انهم نادرا ما يقعون تحت نظر المسئولين الكبار، بل ولا حتى مثقفينا الكبار. انهم يملأون الشوارع والحدائق فى مثل هذه الايام فقط، وعلى الأخص فى شم النسيم الذى يحض على الخروج من المنازل، ولا يفرض ما تفرضه الاعياد من واجبات من زيارة الاقارب وتبادل المعايدة.. الخ. شم النسيم له اذن فى مصر كثير من سمات الاحتفال الحقيقى والابتهاج الذى لاتشوبه شائبة، ولا يشك المرء فى أن المصريين سوف يستمرون فى الاحتفال به فى المستقبل، كما استمروا فى الاحتفال به لمئات (وربما الاف) من السنين.

فى نفس اسبوع شم النسيم خرج علينا بعض الاشخاص برأيين يصعب القول أيهما اسخف من الآخر. واحد يقول ان الاحتفال بشم النسيم حرام، والآخر يدعو عددا من النساء إلى الذهاب إلى ميدان التحرير، والوقوف فيه وهن يرتدين الحجاب، ثم يقمن بخلعه والقائه على الأرض فى شبه مظاهرة لإعلان انتهاء عصر ارتداء الحجاب، كما فعلت هدى شعراوى وبعض زميلاتها منذ نحو مائة عام، عندما قمن بخلع البرقع الذى كان يغطى وجوههن، فى دعوة إلى ان تخلع النساء المصريات مثلهن البرقع أو النقاب، كان كلا الرأيين من النوع الذى لا يحتاج إلى تفكير طويل لرفضه، ولكن الذى يحتاج إلى بعض الجهد هو توضيح أسباب هذا الرفض.

كانت المناظر التى رأيتها فى الطرقات وعلى امتداد كورنيش النيل، والتى وصفت بعضها حالا، كافية للتدليل على رفض المصريين لكلا الرأيين. فهم يحتفلون ويبتهجون ابتهاجا حقيقيا بشم النسيم، ولكنهم هم أنفسهم الذين يعمرون المساجد ويتلون القرآن ويوبخون أى شخص يرتكب عملا مما يعتبرونه معاصى حقيقية. اذن فإنهم لايمكن ان يتفقوا مع من يعتبر الاحتفال بشم النسيم حراما أو معصية، والغالبية العظمى من النساء منهم، وعلى اختلاف أعمارهن، باستثناء الاطفال الصغار، محجبات. ولكن رأيت كثيرات منهن يتكلمن ويضحكن مع شباب فى مثل اعمارهن، ولايبدو انهم جميعا من أفراد عائلاتهم.

انهن اذن، أو كثيرات منهن، لا يرين فى ارتداء الحجاب ذلك العائق العظيم الذى يقيد حريتهن، كما يتصور صاحب الرأى الذى ينادى النساء بالقيام بمظاهرة لخلعه.

الشعب المصرى قام بمظاهرة اذن، فى يوم شم النسيم، لإعلان رفضه لكلا الرأيين: رفض اعتبار شم النسيم حراما، ورفض خلع الحجاب، فما الذى ياترى يمكن ان يكون قد ادى بصاحب الرأى أو ذاك للوقوع فى أحد هذين الخطأين الجسيمين من المؤكد اولا ان كلا منهما لم يبذل الجهد الكافى لفهم حقيقة الشخصية المصرية، أو تطور الظروف الاجتماعية فى مصر فى نصف القرن الماضى. فالذى يقول بأن الاحتفال بشم النسيم حرام، ويتوقع ان يصدقه المصريون ويتبعون رأيه، لا يعرف فيما اظن كيف استطاع المصريون طوال تاريخهم ان يوفقوا توفيقا بديعا بين التدين وبين حب الحياة. هذه موهبة لا اعرف شعبا اخر استطاع ان يتفوق فيها على المصريين، وهى تتفق فى رأيى مع ما يتسم به المصريون من حكمة، إن هذا الموقف هو موقف الشخص الحكيم الذى عرك الحياة وعركته. فعرف كيف يحكم على الأمور وانواع السلوك بما تنطوى عليه فى الحقيقة وليس بما يظهر منها للناس، ويقيم الناس طبقا لنياتهم الحقيقية، وليس طبقا لما يقولونه أو ما يرتدونه من ملابس. هذا النوع من الناس يكون عادة محبا للحياة والفرح، محبا للأطفال، شهما مع النساء، ومتسامحا مع الغير،كارها للتشاؤم والتجهم، مبتسما عادة ومحبا للضحك والنكتة.

ولكن صاحب هذا الرأى لا يدرك ايضا ان استخدام المصريين لكلمة «حرام» هو فى العادة للتعبير عن شىء مختلف تماما عما يظن، ما اكثر ما سمعت منذ صباى «كلمة حرام» تستخدم لوصف سلوك يتسم بالقسوة أو موقف صعب يجلب الحزن والاسى، وليس بمعنى الخروج على قاعدة دينية أو مخالفة الشريعة. هناك طبعا هذا المعنى الأخير ايضا، ولكن المصريين فيما اظن اكثر استخداما لكلمة «حرام» بالمعنى الدنيوى، من استخدامه بالمعنى الدينى، أى انهم بعبارة اخرى قد فهموا الدين هنا ايضا بمعنى يتفق مع حبهم للحياة.

أما دعوة النساء إلى القيام بمظاهرة لخلع الحجاب بدعوى ان معظم النساء يرتدينه نتيجة لعملية قهر واجبار من رجالهن، سواء كان الرجل ابا أو زوجا، فإنها تكشف عن عجز عن فهم العوامل الحقيقية التى ادت إلى انتشار الحجاب فى مصر ابتداء من اوائل السبعينيات، نعم هناك طبعا بعض حالات الاجبار والقهر، ولكن الاسباب الحقيقية تعود فى رأيى إلى ظواهر لاتنطوى أو اجبار من جانب الرجل للمرأة، كأضطرار المرأة للخروج للعمل أو التعليم أو القيام بمهام كانت وقفا على الرجل فى الماضى، اما بسبب الهجرة أو التضخم، وتفضيل كثير من الرجال للمرأة العاملة، مع انتماء المرأة اصلا لعائلات محافظة لم تتعود ان تساهم بناتها ونساؤها بهذه الاعمال، كل هذا دفع اعدادا غفيرة من النساء فى مصر إلى ارتداء الحجاب، دون ان ينطوى ارتداؤه بالضرورة على قهر أو اجبار من جانب الرجل. نعم الظروف الاجتماعية كثيرا ما تكون قاهرة ولكن ليس بالمعنى الذى يتصوره صاحب هذا الرأى، وإلا كنا جميعا رجالا ونساء وفى مختلف البلاد، متقدمة أو متأخرة مقهورين ومظلومين وفى حاجة جميعا للذهاب للقيام بمظاهرة فى ميدان التحرير.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات