هل نجحت الحكومة فى تجاوز أزمة زيادة أسعار تذاكر المترو؟
إن كان المعيار هو هدوء الشارع وزوال خطر الاضطراب والاحتجاج من جانب المواطنين، فإن الأزمة قد انفرجت بعد تأكيد السيد رئيس الجمهورية يوم الأربعاء الماضى على دعمه لزيادة الأسعار، وبعد الافراج عن المواطنين المحتجين، واعتياد الناس على الأسعار الجديدة، ثم انشغالهم بمتطلبات الحياة اليومية الأخرى.
ولكن الحقيقة أن لا هدوء الناس واعتيادهم على الوضع الجديد ولا مرور لحظة التوتر الأمنى بسلام هى المعايير الوحيدة أو الصحيحة لنجاح السياسات الاقتصادية والاجتماعية، بل يلزم النظر إلى ما حققته زيادة أسعار التذاكر من نفع للدولة والاقتصاد القومى مقابل ما جلبته من مشقة على الناس من أجل تقييم صحة القرار.
برنامج الإصلاح الاقتصادى الحالى تطبيقه منذ الربع الأخير من 2016 كان ولا شك ضروريا لأن الاستمرار فى المسار السابق كان سيؤدى بالبلد إلى كارثة اقتصادية كانت احتدمت مع انهيار العملة الوطنية وتوقف الإنتاج والتصدير والتشغيل بسبب غموض المشهد الاقتصادى واضطرابه. ومع أن الدفعة الأولى من تلك الإجراءات تسببت فى زيادة الأسعار بأكثر من قدرة الناس على الاحتمال، إلا ان الاقتناع العام بأنه لابد من تدخل حاسم لوقف النزيف السابق جعل الشارع يتحملها بل ويتقبلها على مضض من منطلق أن دفع الثمن الآن سيودى إلى تحسن لاحق.
شخصيا، ومعى الكثير من المعلقين، لم أتردد فى تأييد ما كنت ولا زلت أعتقد أنه كان سليما وضروريا فى حزمة الإصلاحات الأولى، وعلى رأسها تحرير سعر الصرف وتخفيض دعم الطاقة وفرض ضريبة القيمة المضافة. ولكن فى مقابل الإصلاحات الكلية التى جرى اتخاذها فإن السياسة الاجتماعية للدولة يلزم أن تكون قادرة على إعادة التوازن للمجتمع والحفاظ على مقومات الحياة الأساسية للمواطنين وتوفير الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية. ومن هنا فإن اختيار مجالات الانفاق الاجتماعى والقيمة النسبية لكل منها يصبح العنصر الأكثر أهمية فى الحفاظ على الاستقرار بل وعلى فاعلية إجراءات الإصلاح الاقتصادى ذاتها. ولكن هذا الاختيار يلزم أن يكون على أساس معايير معروفة وموضوعية تستند إليها الحكومة فى تحديد أوجه الانفاق الاجتماعى لكى تكتسب سياستها الاقتصادية قبولا ومصداقية.
وهذه المعايير لا ينبغى أن تكون مجرد تحقيق وفر فى موازنة الدولة، ولا تحميل المواطنين بالتكلفة الحقيقية للخدمات العامة فى كل المجالات، بل يلزم أن تتضمن أيضا ما يعود على الناس بالنفع ويحفظ كرامتهم أو يمنع عنهم الأذى والاهانة ويرفع من كفاءة الخدمات والمرافق العامة، ولو تحملت الدولة جانبا من تكلفتها. المهم أن تكون هناك معايير واضحة ومفهومة ومعبرة عن الصالح العام.
برنامج «كرامة» و«تكافل» مثلا نجح لأنه منح ما يزيد على مليونى أسرة من الأكثر فقرا دعما ماليا مباشرا يساعدهم على توفير بعض الاحتياجات الضرورية، وزيادة الدعم التموينى على البطاقات نجح لأنه ساهم فى توفير مواد غذائية رخيصة نسبيا لقطاع واسع من المجتمع، وتنظيم دعم الخبز نجح لأنه استبعد الكثير ممن لا يستحقونه، ورفع أسعار الكهرباء نجح لأنه اعتمد على أسلوب التسعير التصاعدى الأكثر عدالة بطبيعته.
ولكن ما جعلنى أتوقف تحديدا فى مقال الأسبوع الماضى عند قرار زيادة أسعار تذاكر المترو وأتحفظ عليه أنه لا يستند إلى معيار موضوعى بخلاف تحميل المواطنين جانبا من التكلفة، بل يعبر فى تقديرى عن عكس السياسة الاجتماعية التى يفترض أن تعمل الحكومة على تطبيقها. فدعم المترو بطبيعته موجه نحو الطبقات محدودة ومتوسطة الدخل، وهو لا يكلف الدولة كثيرا مقارنة بباقى بنود الدعم، ويشجع على استخدام المواصلات العامة بدلا من وسائل الركوب الخاصة الأكثر ضررا بالبيئة، ويحافظ على كرامة المواطنين، ويحقق كفاءة أعلى فى نظام النقل، ويوفر على الناس وقتا وجهدا. وهذه كلها اعتبارات ومعايير لا ينبغى أن تكون محل اعتبار عند تقدير المكسب والخسارة والعائد من كل بند من بنود الدعم أو الانفاق الاجتماعى.
القضية التى أطرحها لا تتعلق بتذاكر المترو فقط، بل بقضية الانفاق الاجتماعى عموما وضرورة وضوح المنطق الذى تستند إليه الحكومة فى المفاضلة بين مجالات هذا الانفاق وأولوياته وتحديد العائد منه على المجتمع بكل مكوناته الاقتصادية والبيئية والإنسانية.