الحوار السياسى فى مصر يكاد يكون مستغرقا بالكامل هذه الأيام فى موضوع الدستور أولا أم ثانيا، بمعنى: هل يتم إجراء الانتخابات البرلمانية ثم يختار البرلمان جمعية تأسيسية تعمل على اقتراح دستور جديد وفقا للإعلان الدستورى الصادر عن المجلس العسكرى (هذا مبدأ الدستور ثانيا)، أم يتم العدول عن ذلك وإصدار إعلان دستورى جديد ينص على تشكيل جمعية تأسيسية لاقتراح مواد الدستور، ثم يعقبها انتخابات البرلمان ( مبدأ الدستور أولا).
وأطمئن القارئ إلى أننى لن أتعرض هنا لمزايا وعيوب وصحة أو خطأ كل موقف، لأن المناقشة التى جرت بشأن ذلك فى الصحف والبرامج التليفزيونية كافية وزيادة، ولاعتقادى أن الحوار حول ترتيب ومواعيد الانتقال إلى الحكم الديمقراطى ــ مع أهميته ــ قد تجاوز المطلوب منه، وجاء على حساب المضمون الدستورى الذى يرغب الشعب المصرى فى تحقيقه. وهكذا ضاع وقت ثمين فى الجدل حول موضوع الدستور أولا أم ثانيا، ولم يتحرك الحوار فى مصر خطوة واحدة فى اتجاه التفكير فيما سوف يتضمنه هذا الدستور الجديد والحقوق والضمانات التى سوف يأتى بها. لذلك فلو نحينا جانبا لفترة وجيزة الخلاف على الترتيب، فإن هناك أربع قضايا تمثل ما ينبغى أن تجمع عليه التيارات والقوى السياسية الوطنية كلها، لأنها تعبر عن المصلحة المطلقة للوطن والمواطنين:
ـ القضية الأولى: هى ضرورة الاتفاق على عدد من المبادئ والضمانات الرئيسية التى تحمى المواطن وتحمى حقوقه الأساسية بين التيارات السياسية المختلفة، بحيث يكون هناك قدر من التوافق العام فى المجتمع حول فلسفة الدستور القادم، فتعمل الجمعية التأسيسية فى إطار من المرجعية الفكرية التى تعبر عن وجدان وقناعات الشعب المصرى وما يحقق مصالحه. هذا جهد تقوم به بالفعل عدة مبادرات كلها تستأهل الاهتمام والتقدير وتقديم العون، لأن الصالح العام فيها واحد. ولكننى فى هذا الأمر أتحفظ على وصف هذه المبادئ بـ«فوق دستورية» كما يطلق عليها أحيانا، لأن الغرض منها ليس المصادرة على عمل الجمعية التأسيسية حينما تقترح الدستور الجديد، ولا الحجر على رأى الناس حينما يستفتون بشأنه، بل مجرد تقديم مبادئ عامة ذات قيمة معنوية لا قانونية تمثل ما يمكن أن تتفق عليه التيارات السياسية والاجتماعية المختلفة، وتسهل عملية إعداد الدستور القادم.
ـ أما القضية الثانية: فهى ضرورة أن نتمسك جميعا بأن تكون الجمعية التأسيسية ــ سواء تشكلت بإرادة مجلس الشعب، أم بإرادة الشعب مباشرة، أم بقرار من المجلس العسكرى ــ معبرة عن كل القوى السياسية والاجتماعية فى المجتمع وجميع المصالح والطوائف والأقاليم والتخصصات. هذه هى الضمانة الأساسية لحسن صياغة الدستور القادم ولنجاحه فى التعبير عن مصالح أعضاء المجتمع بشكل عادل ومتوازن. ولذلك يلزم اتفاق الجميع ومن الآن على أن يتحقق هذا الهدف، وأن تكون له ضوابط وأصول وأسس محددة للاختيار ولعدالة التمثيل، بحيث تكون الإجراءات والمواعيد المختلف عليها الآن بشأن الدستور أولا أم ثانيا غير مؤثرة على تطبيق مبدأ التمثيل المتوازن.
ـ القضية الثالثة: هى أن علينا جميعا توجيه المزيد من الطاقة والانتباه لتوعية الجماهير بالقضايا الدستورية العديدة التى سوف يتم التطرق إليها خلال مرحلة إعداد الدستور. فأسوأ ما يمكن أن يحدث هو أن نضيع الوقت والجهد فى مناقشة إجرائية، وأن ينقسم الرأى العام ويتحزب بشأنها، ويمر الوقت دون أن تكون التوعية الكافية قد تحققت بشأن مضمون القضايا الأساسية الخلافية، فيذهب الناس إلى صناديق الاقتراع للاستفتاء على دستور مقترح ويكون اختيارهم مبنيا على انطباعات وشائعات وخلافات فرعية. نصف الديمقراطية هو التوجه لصندوق الاقتراع والإدلاء بالرأى فى حرية تامة. ولكن نصفها الآخر أن يكون من يدلى بصوته على علم ودراية بما يتم التصويت أو الاقتراع بشأنه. وإذا استمررنا فى مناقشة موعد إعداد الدستور وما إذا كان يسبق الانتخابات البرلمانية أم يلحقها، فمتى تتم التوعية حول الضمانات والحقوق الأساسية، وحريات المواطن، وحقوق المرأة، والنظام الاقتصادى، والخدمات العامة، وسيادة القانون، وحقوق المعاقين، والحفاظ على البيئة، وحرية المعلومات، والنظام القضائى، ونظام الحكم، متى نتطرق إلى هذه الموضوعات وغيرها؟ أم ننتظر حتى اللحظة الأخيرة ثم تبدأ حرب الشائعات والتعبئة العاطفية مع أو ضد الدستور المقترح؟
ـ وأخيرا.. فإن القضية الرابعة: هى ضرورة العمل على أن تكون الانتخابات القادمة ــ أيا كان موعدها ــ نزيهة بالفعل. هناك افتراض أنها سوف تكون كذلك، لأن الناس حريصة على نزاهتها والحكومة أيضا. ولكن هذا ليس كافيا. يجب أن تصدر قوانين محددة تنظم التمويل الانتخابى، وتمنع الممارسات الفاسدة، وتحدد ضوابط الدعاية الانتخابية، وتمنع استغلال النفوذ والمناصب فى كسب الأصوات، وتحد من دور الجمعيات الأهلية فى العملية الانتخابية، وغير ذلك من الضوابط التى لا يخلو منها نظام قانونى انتخابى حديث. فالنوايا الصادقة والرقابة الشعبية غير كافيتين لتحقيق انتخابات نزيهة بالفعل.
هل معنى ذلك أن توقيت إعداد الدستور وما إذا كان يسبق الانتخابات البرلمانية أم يلحقها أمر غير مهم؟ بالقطع لا. الوضع الحالى يقضى بأن تكون الانتخابات أولا والدستور ثانيا. وهناك قوى سياسية تطالب بتعديل الترتيب، وقوى أخرى تعارض ذلك. ولكن دعونا لا ننقسم على هذا الموضوع وننسى المناقشة الأهم حول مضمون الدستور، ودعونا لا نقبل استقطاب المجتمع بين فريقى أولا وثانيا، لأن الناس لو فقدت ثقتها فى جدوى الحوار السياسى فسوف تعزف عنه مرة أخرى، وهذه تكون الخسارة الأكبر.