التجربة اليونانية من منظور سياسى - زياد بهاء الدين - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 3:18 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التجربة اليونانية من منظور سياسى

نشر فى : الثلاثاء 21 يوليه 2015 - 8:20 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 21 يوليه 2015 - 8:20 ص

انشغل العالم خلال الأسابيع الماضية بمتابعة الصراع بين الحكومة اليونانية وبين زعماء دول الاتحاد الأوروبى حول ديون اليونان ورفض حكومتها برنامج التقشف الاقتصادى الذى اشترطه الاتحاد الاوروبى مقابل الحصول على التمويل اللازم لإنقاذ البلد من الافلاس والاقتصاد من الانهيار.

ولكن فى النهاية، وبعد مناورات هائلة ومعركة إعلامية ودبلوماسية تجاوزت كل الأعراف، وبعد تعثر اليونان بالفعل عن سداد ديونها، وبعد ان اختار الشعب أن يساند حكومتها فى رفض برنامج الإصلاح الأوروبى، عاد رئيس الوزراء اليونانى إلى طاولة المفاوضات وقبل بشروط لم تختلف كثيرا عما كان معروضا عليه من البداية، وهو ما سارع المعلقون إلى اعتباره هزيمة فادحة له ولحزبه ولحكومته. فهل حقيقة فشلت التجربة اليونانية؟ وما الذى يترتب على ذلك؟

حجم المشكلة معروف. فقد بلغ الدين اليونانى الخارجى فى نهاية ٢٠١٤ نحو ٣٢٠ مليار يورو، وهذا رقم مرتفع للغاية لأنه يمثل نحو ١٨٠٪ من حجم الناتج المحلى الاجمالى، وهى أعلى نسبة بين بلدان منطقة اليورو. وأزمة الدين اليونانى ليست وليدة هذا العام، بل نتاج تراكم تدريجى فى الدين الخارجى منذ عام ٢٠٠١ حتى تفاقم وبلغ ذروته عام ٢٠٠٩ فى أعقاب الأزمة المالية العالمية. وهنا نأتى إلى اللحظة الحاسمة، إذ وجدت اليونان نفسها، إذا إرادت أن تتجنب التعثر والإفلاس، مضطرة للاقتراض من دول الاتحاد الأوروبى، ومن البنك الأوروبى، ومن صندوق النقد الدولى. وقد قامت بالفعل بذلك مرتين، الأولى عام ٢٠١٠ حينما حصلت على تمويل قيمته ١١٠ مليارات يورو، والثانية عام ٢٠١٢ مع تمويل إضافى قدره ١٣٠ مليار يورو. وفى الحالتين ارتبط التمويل بالتزام اليونان ببرنامج اصلاح اقتصادى تقشفى، قوامه خفض الانفاق وزيادة الحصيلة الضريبية وتحرير بعض جوانب النشاط الاقتصادى وتطبيق برنامج للخصخصة.

والواقع أن مبدأ إلزام الدولة المقترضة بتطبيق برنامج معين (ما يسمى بالمشروطية) لم يكن فى أى وقت محل خلاف لأنه ليس منطقيا أن تقوم دول ومؤسسات عالمية بإقراض دولة متعثرة ولا تلزمها باتخاذ إجراءات محددة تخرجها من أزمتها الاقتصادية وتضمن رد الأموال مرة أخرى.

الخلاف كان ولا يزال حول ما إذا كانت الدول الأوروبية، حينما قدمت تمويلا لليونان عامى ٢٠١٠ و٢٠١٢، قد ألزمتها ببرنامج يهدف لإصلاح الاقتصاد بشكل إيجابى والدفع بالتنمية الاقتصادية وبالعدالة الاجتماعية، أم أنه كان برنامجا يهدف قبل كل شىء لسداد المديونيات القديمة وتطبيق سياسات تقشفية قاسية تقلل من عجز الموازنة وتحد من الانفاق الحكومى ولو كان ذلك على حساب فرصة البلد فى التقدم والتنمية المستدامة.

الواضح فى تقدير العديد من الخبراء الاقتصاديين من ذوى الوزن العالمى (ولا أقصد بذلك المنتمين للمدرسة الاشتراكية فحسب بل عمالقة الفكر الاقتصادى مثل أمارتيا سن، وجوزيف ستيجلتز، وبول كروجمان، ومحمد العريان) أن البرنامجين اللذين فرضهما الاتحاد الاوروبى على اليونان كان هدفهما التقشف وسداد الديون السابقة وليس دفع البلد فى اتجاه التنمية والخروج من دائرة الدين، وإن محصلة تطبيقهما كانت كارثية، إذ انكمش الاقتصاد اليونانى فى خمس سنوات بدلا من أن ينمو وبنسبة مروعة بلغت ٢٥٪، وارتفعت نسبة البطالة إلى ٢٥٪ بينما بلغت نسبة البطالة بين الشباب ٥٠٪، صحيح أن المدافعين عن برامج التقشف لديهم ما يردوا به: أن الخطأ كان فى جانب الحكومات اليونانية التى اقترضت دون ان تكون لديها النية الجادة للإصلاح، وأن التهرب الضريبى لم يتم التعامل معه، وان الفساد تسبب فى عرقلة النمو الاقتصادى. ولكن حتى لو كان كل ذلك صحيحا، فإن الحقيقة أن التقشف بدون تنمية وأن تحرير الاقتصاد بدون عدالة اجتماعية هو مصدر الخلل الرئيسى.

ولهذا فإن الكثير ممن حذروا من إصرار الاتحاد الأوروبى على تطبيق برنامج تقشفى صارم لم يتحفظوا على مبدأ المشروطية التى لابد إن تصاحب كل تمويل جديد، بل على أن الطبيعة التقشفية للبرنامج لن تخرج اليونان من أزمتها وستؤدى إلى تأجيلها لعام أو اثنين ثم تتفاقم مرة أخرى.

وهم يستندون فى ذلك إلى أن اليونان ستحصل على تمويل جديد قيمته ٨٦ مليار يورو لكى تستأنف سداد ديونها القديمة، وتلتزم مقابل ذلك بزيادة ضريبة القيمة المضافة، وزيادة ضريبة الدخل على الشركات، ورفع سن التقاعد، وتخفيض بعض المعاشات الحالية، وزيادة مخصصات البنوك، وتطبيق برنامج للخصخصة، وإنشاء صندوق سيادى لإدارة حصيلة الخصخصة بإشراف أوروبى، مع عدم شطب أو تخفيض أى جزء من المديونية القائمة، والمشكلة هنا ليست فى أن هذه الإجراءات ليست سليمة فى حد ذاتها، وهذا محل جدل اقتصادى، ولكن أنها تركز مرة أخرى على جانب التقشف وسداد الديون السابقة فى مواعيدها وتخفيض عجز الموازنة، دون الاهتمام بجانب التنمية والتوسع والاستثمار والتشغيل وزيادة الانفاق الحكومى، وبالتالى فهى لا تمنح اليونان فرصة حقيقية للخروج من حلقة الاستدانة والعجز.

من جهة أخرى فإن تحالف «سيريتزا» الاشتراكى وحكومته ورئيس وزرائها خسروا هذه الجولة ليس لأنهم قبلوا تطبيق برنامج اقتصادى كانوا قد أعلنوا رفضه من قبل، وإنما لأنهم حينما كسبوا الرأى العام اليونانى وجانبا لا يستهان به من الرأى العام العالمى وتأييد خبراء الاقتصاد والمنظمات الدولية، لم يكن لديهم خطة بديلة واضحة المعالم ولا تصور محدد عما يفعلونه حينما يتمسك الاتحاد الأوروبى بموقفه ويوشك البلد على الإفلاس ويصطف الناس أمام البنوك لسحب مدخراتهم، فكانت النتيجة هى الرجوع لطاولة المفاوضات وقبول الشروط الأوروبية.

وفى تقديرى أن هذه التجربة لم يترتب عليها فقط ضياع فرصة خروج اليونان من الأزمة بنتائج أفضل، وإنما فرصة أكبر لتقديم نموذج مختلف فكرى وعملى عن القواعد والأفكار التى حكمت النظام الاقتصادى العالمى خلال العقود الماضية، ولتقديم رؤية بديلة عن التنمية المستدامة التى تسمح بالبلدان المتعثرة بأن تسترد عافيتها وقدرتها على النمو دون أن تظل مواردها مكبلة بديون إلى الأبد، ولهذا فإن الإصرار الأوروبى على رفض منح اليونان شروطا أفضل، أو شطب جانب من مديونيتها، لم يكن فى حقيقته مجرد تعبير عن خلاف فنى حول طبيعة الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، بل عن إدراك أن هذه لحظة حاسمة يجب على الاتحاد الأوروبى أن يتمسك فيها بتطبيق القواعد المستقرة ولا يسمح بإثارة الشك حيالها.

ويؤكد هذا الأمر أن المستشارة الإلمانية / أنجيلا ميركل صرحت بالأمس، وبعد أن صار واضحا أن الحكومة اليونانية قد قبلت الشروط الأوروبية بالكامل، أن اعادة جدولة الديون ليس أمرا مستبعدا بالكامل ويمكن النظر فيه مستقبلا، تأكيدا على أن هذه المعركة كانت حول الحفاظ على النظام الاقتصادى الراهن أولا ثم النظر فى مساعدة الدول الأفقر بعد ذلك. وقد انتصر هذا الجانب ليس لأنه الأقوى ولا لأن موارده أكبر، وإنما لأنه كانت لديه خطة واضحة ورؤية محددة لما يسعى لتحقيقه بينما اعتمد الجانب اليونانى على التأييد الجماهيرى والتعاطف العالمى دون أن يكون لديه تصور واضح عن الخطوات التالية.

فى كل الأحوال فقد ساهمت التجربة اليونانية فى فتح ملف شائك وتحريك المياه الراكدة والتأكيد على أن الاستمرار فى المسار الاقتصادى التقليدى لم يعد ممكنا وأن العالم بحاجة لبدائل ورؤى جديدة، ولكن بشرط ألا تقف عند مجرد الاحتجاج، بل تكون بدورها مدروسة وناضجة وقابلة للتطبيق.

زياد بهاء الدين محام وخبير قانوني، وسابقاً نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير التعاون الدولي، ورئيس هيئتي الاستثمار والرقابة المالية وعضو مجلس إدارة البنك المركزي المصري.