لم ألتق الدكتور «إسماعيل سراج الدين» طوال فترة رئاسته لمكتبة الإسكندرية إلا مرات قليلة غلب عليها الطابع الرسمى، وإن كنت تابعت نشاط المكتبة وتطورها منذ تأسيسها وحتى الآن. لذلك أدهشنى ــ مثل كثيرين ــ صدور الحكم عليه أخيرا بالحبس ثلاث سنوات بتهمة إهدار المال العام فى أثناء رئاسته للمكتبة. وبعيدا عن التعليق على حكم قضائى واجب الاحترام ولا يزال قابلا للطعن عليه، فإن ما استوقفنى أكثر من الحكم ذاته هو رد فعل المجتمع الثقافى حياله، وحجم التأييد والمساندة اللذين عبر بهما أصدقاؤه وزملاؤه عن تضامنهم معه، بمن فيهم الرئيس الجديد للمكتبة. فهل سبب هذا الحماس مجرد الاقتناع ببراءة «إسماعيل سراج الدين» أم أن وراء هذه الانتفاضة الثقافية اعتبارات أخرى؟
فى تقديرى الشخصى أن وراء هذه الظاهرة ما يتجاوز مجرد المساندة والتقدير المهنى، وهو الشعور السائد فى المجتمع بأن هناك خللا جسيما فى النظام القانونى الذى يحيط بعمل موظفى الدولة ويضعهم بشكل عشوائى تحت سيف الاتهام بالفساد وإهدار مال الدولة، بما يجعل العمل العام كله محفوفا بالمخاطر وطاردا لمن قد يرغبون يوما ما فى التصدى له.
وهذا الخلل لا يتعلق بالقضاء. فليست المحاكم هى السبب فيما آلت إليه حالة العدالة فى مصر، لأن القضاء فى نهاية الأمر لا يملك إلا أن يحكم بما تنص عليه القوانين وما يقدم إليه من تحقيقات. الخلل الذى أشير إليه يأتى من مصدرين مختلفين:
المصدر الأول هو فوضى التشريعات التى نعيشها منذ عقود طويلة فى مجال الإدارة الحكومية وحماية المال العام، والتى تتضمن مساحات هائلة من الغموض والتناقض، وتحد من السلطة التقديرية الضرورية لممارسة أى عمل إدارى، وتضع من القيود والعراقيل ما يجعل المسئول الحكومى إما مضطرا للمخاطرة من أجل القيام بعمله، وإما مفضلا عدم اتخاذ أى قرار، وإما مدفوعا للتودد إلى من يتصور أنهم قادرون على حمايته وقت اللزوم. والخطير فى هذه الفوضى التشريعية أنها أنتجت نصوصا وأحكاما غير قاطعة ومحددة كما يجدر بالقاعدة القانونية أن تكون، بل جعلت ذات التصرف مقبولا وسليما فى فهم معين، بينما يصبح مخالفا للقانون فى فهم مختلف، وهذا الغموض هو أسوأ أنواع التشريع.
أما المصدر الثانى للخلل الراهن فهو تراجع السلطة التقديرية لدى جهات تلقى الشكاوى والتفتيش والتحقيق والاتهام بحيث أصبحت كل مخالفة، ولو كانت غير ذات شأن أو لم يترتب عليها ضرر أو وقعت بحسن نية ودون تحقيق مكاسب شخصية، قابلة للتحول إلى ملف واتهام ومحاكمة. القانون فى كل بلدان العالم يعطى جهات التحقيق والاتهام سلطة أساسية هى سلطة حفظ التحقيق حينما يتبين لها أن الجريمة ــ حتى ولو وقعت بالفعل ــ كانت قليلة الأثر، عديمة الأهمية، أو لم يترتب عليها ضرر للصالح العام. ولكن ممارسة هذه السلطة التقديرية تحتاج إلى ثقة وشجاعة لدى سلطات التحقيق والاتهام، كما تحتاج إلى وعى من جانب الإعلام والرأى العام بما يساعد على بلوغ القانون غايته الحقيقية، وهى منع الفساد وعقاب الفاسدين لا نشر الشلل والرعب فى الدوائر الحكومية.
الأهم مما سبق أنه لا هذه التشريعات المتناقضة والفضفاضة، ولا عزوف سلطات التحقيق والاتهام عن حفظ الملفات غير ذات الأهمية، قد ساهم فى الحد من الفساد أو ردع الفاسدين أو تحسين أساليب الإدارة الحكومية. الواقع أن خلط الحابل بالنابل، وإغراق النظام القضائى فى بحر الشكاوى والتحقيقات والاتهامات، بغض النظر عن جديتها وأهميتها، يساهم فى إضعاف منظومة العدالة بأكملها ونجاح العتاة من المجرمين فى التعامل معها حينما يتمكنون من فهم مسالكها وإيجاد الوسائل المبتكرة لترتيب وتستيف أوراقهم، بينما من يسقطون فى شباكها هم أحيانا الأكثر سذاجة أو الأكثر استعدادا للمخاطرة من أجل تحقيق بعض النتائج المفيدة.
قضية الدكتور«إسماعيل سراج الدين» ليست الأكبر ولا الأخطر فيما صدر من أحكام فى السنوات الأخيرة وهى على أى حال لم تنته. ولكن الأهم أنها تتيح لنا فرصة إعادة النظر فيما آلت إليه منظومة العدالة فى مصر، وفى تحديث تشريعات الإدارة الحكومية، وتطوير المفاهيم السائدة لدى الجهات المعنية بتطبيقها، لأن هذا هو ما يساهم فى محاربة الفساد وفى تحقيق الشفافية والنزاهة فى العمل الحكومى.