لم يكن مفاجئا وصول مرشحين من خارج «السيستم» إلى الجولة الثانية فى الانتخابات الرئاسية التونسية التى أسفرت جولتها الأولى عن تصدر رجل القانون قيس السعيد للمركز الأول بنحو 18.5% من أصوات الناخبين المشاركين فى العملية الانتخابية، فيما حل رجل الأعمال والإعلام نبيل القروى ثانيا بنسبة تقارب 15.5%، فالنتيجة عبرت عن المزاج العام لأبناء مهد الربيع العربى تجاه الطبقة السياسية «حكومة ومعارضة»، وأسست لحركة «تمرد» عربية جديدة لكن هذه المرة عبر آليات مختلفة.
ملَّ التوانسة من رجال «المنظومة» الذين تبادلوا الأدوار منذ رحيل بن على، وقرر الشعب معاقبة «السيستم» فاختار نحو 65% منه العزوف عن صناديق الاقتراع كإجراء احتجاجى، فيما اختار المشاركون مرشحين من خارج المشهد السياسى، وهو ما اعتبره دبلوماسى تونسى يقيم فى القاهرة درسا من الشعب إلى الساسة التوانسة الذين فشلوا فى تحقيق مطالبه الاقتصادية والاجتماعية.
انتزع التوانسة بعد ثورة الياسمين مكتسبات سياسية كبرى، «تعددية حزبية، ومشاركة، وحريات، واستقلال قضاء» لكن الساسة لم يستثمروا تلك المكتسبات وأساءوا استغلالها، فحل الفقر وتفاقمت البطالة وتصاعدت الاحتجاجات، إثر فشل الحكومات المتعاقبة على مختلف توجهتها فى تحسين مستوى معيشة الشعب وتحقيق آماله وتطلعاته، فكان الحساب فى صندوق الاقتراع، وهو إجراء يكشف عن وعى سياسى كبير لدى أصحاب الشرارة الأولى لثورات الربيع العربى.
بحسب البيانات الرسمية، ارتفع العجز التجارى فى تونس، رافق ذلك قرارات حكومية برفع أسعار الوقود وبعض السلع الأساسية، وزيادة فى الضرائب على السيارات والاتصالات وخدمات الانترنت، بدعوى تنفيذ أجندة إصلاح اتفقت عليها الحكومة مع الجهات المانحة، فارتفع التضخم إلى 6.7%، وفاقمت تلك الإجراءات من معاناة التوانسة، ما أثر على مستوى معيشة الطبقات المتوسطة والفقيرة، فتصاعد الاحتقان الشعبى، وأدى إلى كفر التوانسة بالحكومة وبالمعارضة الحزبية التى لم تواجه تلك الإجراءات الاقتصادية، فضلا عن فشلها فى مواجهة الفساد.
نتيجة لذلك راهن الناخب التونسى على رجل القانون الذى بشرهم بـ «ثورة ثانية»، وأعاد رفع شعار «الشعب يريد» الذى صاغه التوانسة فى ثورتهم على بن على، وينتمى إلى الطبقة المتوسطة على عكس أغلب الطبقة السياسية، ويقود سيارته القديمة، ويقول إنه يفضل البقاء فى منزله البسيط، إذا ما تم انتخابه، رافضا الانتقال إلى القصر الرئاسى الفاخر فى قرطاج.
أما رجل الأعمال والإعلام نبيل القروى، الذى حل فى المرتبة الثانية، والذى جاء أيضا من خارج المؤسسة السياسية التونسية، فتمكن من مغازلة طبقة الفقراء والمعوزين من خلال المساعدات الخيرية التى قدمها عبر جمعيته «خليل تونس»، واستغل مؤسسات الإعلام التى يملكها وفى مقدمتها قناة «نسمة» فى رسم صورة له باعتباره رجل البر المنحاز إلى المحتاجين، فى وقت تحاصر الحكومة هذه الطبقة بإجراءاتها الاقتصادية، فحصل على أعلى النسب فى المناطق الأكثر فقرا فى البلاد، مثل الشمال الغربى والوسط الغربى لتونس.
مثلت نتيجة المرحلة الأولى رسالة قوية إلى الحكومات التونسية المتعاقبة، والتى شارك ممثلوها فى تلك الانتخابات، وكانت الرسالة بالغة إلى حد حملت يوسف الشاهد رئيس الحكومة والمرشح الرئاسى الذى خرج من المنافسة للقول: «تلقينا الرسالة التى أرسلها الناخبون.. وهى درس يجب أن نفهمه جيّدا»، أما قيس سعيد صاحب المركز الأول فأشار إلى أن ما حدث فى المرحلة الأولى يحمله «مسئولية كبرى.. مسئوولية تحويل الإحباط إلى أمل».
نسف الشعب التونسى العظيم «حمامه القديم» بكل مكوناته، وكما كان رائدا فى إطلاق شرارة ثورات الربيع العربى، أعلن الريادة مرة أخرى بإعلانه ثورة جديدة عبر آليات ديمقراطية وضع أساسها ولم ينقلب عليها مهما ساءت ظروفه الاقتصادية، وأيا كان الرأى حول اختيار هذ الشعب بين أستاذ القانون المحافظ الذى جاهر بآراء صدمت الحداثيين، وبين رجل الأعمال الملاحق بتهم فساد أبقته رهن الاحتجاز حتى أثناء الحملة الانتخابية، أيا كان الجدل فإن الدرس التونسى يستحق التأمل.
وضع الشعب التونسى أسسا للدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، ومضى فى طريقه لإنضاج تجربته واستكمال أعمدة البناء، منحازا للآليات والقواعد التى ضحى من أجلها قبل 8 سنوات، وتمكن من إزاحة رئيس جمهورية سابق ورئيس وزراء حالى ووزير دفاع ورئيس برلمان ينتمى إلى حركة الإخوان، تخلص منهم بطريقة ديمقراطية.. فتحية إلى شعب تونس العظيم.