بين التغير المناخى وخطر الحرب النووية.. قلق المجتمعات الغربية - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
السبت 21 ديسمبر 2024 8:09 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين التغير المناخى وخطر الحرب النووية.. قلق المجتمعات الغربية

نشر فى : الجمعة 21 أكتوبر 2022 - 7:40 م | آخر تحديث : الجمعة 21 أكتوبر 2022 - 7:40 م

يبدو أن القلق من قادم الأيام لم يعد يقتصر على شعوب البلدان الفقيرة والنامية فقط، بل صار يمتد إلى المجتمعات الغنية أيضا.
فى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، تظهر دراسات حديثة تعدها مراكز استطلاع الرأى العام أن أكثر من نصف المواطنات والمواطنين يشعرون بقلق دائم على أوضاعهم الاقتصادية والمالية والاجتماعية، ويتخوفون من تداعيات الأزمات العالمية الراهنة ويخشون من السقوط فى الفقر بعد التقاعد.
ومن جهة أخرى، تدلل العديد من استطلاعات الرأى الحالية على تزايد نسب من يخافون من المستقبل إن بين المواطنات والمواطنين الأصليين أو بين الأشخاص المجنسين والمقيمين وعلى شيوع الشعور بعدم الأمان إزاء الآخر السياسى (خاصة فى الولايات المتحدة الأمريكية) العرقى والدينى (خاصة فى المجتمعات الأوروبية) بين كل المجموعات السكانية (بين المواطنات والمواطنين الأصليين باتجاه الأشخاص المجنسين والمقيمين وبين المجموعتين الأخيرتين إزاء الأغلبية).
وقد صارت وضعية القلق هذه حاضرة بقوة فى المجال العام. بالأمس كنت أستمع إلى الراديو فى العاصمة الأمريكية والمحاورة تستضيف خبيرة نفسية تعلق على استطلاع رأى يشير إلى أن أكثر من نصف الشعب الأمريكى يشعر بمزيج من القلق والخوف والاكتئاب.. وبات القلق أيضا يسيطر على حواراتى مع زملائى وأصدقائى وعلى مراسلاتهم الشخصية وهم يتابعون تقلبات الاقتصاد العالمى والحرب الروسية على أوكرانيا ومعدلات التضخم المرتفعة وشح الغذاء والغاز المحتمل. بل إن ذات الهواجس والمخاوف لم تعد تترك تواصلى اليومى مع ولدىَّ فى سلام وأضحت تفرض نفسها تارة فى شكل سؤال منهما عن احتمالات حرب نووية بعد تهديدات بوتين وردود بايدن وتارة أخرى مغلفة بتعليقات منهما على جنون العالم من حولهما ومسئولية جيلى وعموم الأجيال الأكبر منهما عن دفع البشرية إلى كوارث التغير المناخى والحروب والفقر والمجاعات.
• • •
وعن سطوة القلق هذه تدور حوارات طويلة تجمعنى افتراضيا مع بعض أصدقائى القدامى فى الولايات المتحدة وأوروبا الذين يخيفهم الخوف الجماعى من المستقبل ويبحثون فكريا وعمليا عن سبل للتغلب عليه. وبسبب سطوة القلق هذه تذكرت تفاصيل حوار دار قبل سنوات قليلة مع بعض الأصدقاء فى برلين كانوا به وكأنهم يقرأون طالع اليوم.
آنذاك قال صديقى المواطن الألمانى من أصول آسيوية: فى الماضى القريب كنت أفتخر بالتعريف عن نفسى كمواطن الدولة الألمانية واليوم لم أعد أشعر بالثقة لا فى الدولة ولا فى الأغلبية. فالدولة يدير شئونها سياسيون لا شأن لهم غير اجترار الحديث عن المهاجرين واللاجئين وضرورات ترحيل أعداد كبيرة من الأخيرين، لا اختلاف هنا بين الحزب المسيحى الديمقراطى والحزب الديمقراطى الحر وغيرهما من أحزاب اليمين وبين أحزاب اليسار من اشتراكيين ديمقراطيين وخضر وحزب اليسار. والكارثة هى أن السياسة فى ألمانيا صارت تلهث خلف أجندة اليمين المتطرف التى يضعها حزب البديل لألمانيا والمجموعات النازية التى تسانده، وأن الكراهية للأجانب من مجنسين ومقيمين ولاجئين باتت فى ارتفاع مستمر والاعتداءات العنصرية فى تزايد دون أن يلتفت السادة فى الحكومة والمعارضة لخطر ذلك على تماسك المجتمع الألمانى ومستقبله. للمرة الأولى منذ قدمت هذه البلاد فى تسعينيات القرن العشرين أصبحت فى معية قلق وخوف حقيقيين على مستقبلى ومستقبل أسرتى فيها، بل وللمرة الأولى أشرع مع زوجتى فى التفتيش الجاد عن بلدان يمكننا أن نرتحل إليها مع أطفالنا إذا تمادت الكراهية والعنصرية. لا رغبة لدينا فى استنساخ مصائر اليهود الألمان فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين.
قبل مذابح ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، كان العداء للسامية والاعتداءات العنصرية ضد اليهود الألمان ومصالحهم التجارية والمالية ومؤسساتهم الثقافية ومقابرهم فى تصاعد مطرد وكانت السياسة ووسائل الإعلام آنذاك تجتر أحاديث الثقة فى ليبرالية وديمقراطية وتقدمية ألمانيا ما بعد الحرب العالمية الأولى وقدرتها على تجاوز تحديات اليمين واليسار المتطرفين. اجتروا تلك الأحاديث دون توقف حتى سيطر النازيون على الحكم فى ١٩٣٣ وكان ما كان.
واليوم، فى ٢٠٢٢، أصبح صديقى المواطن الألمانى من أصول آسيوية يقيم ومعه زوجته وأولاده فى موطنه الأصلى إندونيسيا بعد أن غادر ألمانيا دون رجعة.
• • •
حين تحاورنا قبل سنوات قال صديق آخر وهو مواطن ألمانى من أصول عربية فى معرض الرد على الصديق الخائف: أشعر أن قلقك وخوفك المشروعين يتلاعبان برأسك قليلا. نعم كراهية الأجانب والاعتداءات العنصرية فى ارتفاع، لا أنكر ذلك. ولا أنكر أيضا أن السياسة ومعها النقاش الإعلامى العام لا شأن لهما غير تناول قضايا الهجرة واللجوء وترحيل اللاجئين. غير أن يوميات حياتنا كمجنسين ومقيمين وعلاقاتنا الإيجابية مع مجتمع الأغلبية لم تتغير. أذهب إلى عملى دون خوف، أتجاذب أطراف الحديث مع زملائى عن أمور غير الهجرة واللجوء، نتضامن معا للمساعدة فى جمع التبرعات للمنظمات الإغاثية وللمؤسسات العاملة فى مجال تأهيل المهاجرين واللاجئين الجدد للاندماج فى المجتمع الألمانى، نختلف فى مواقفنا السياسية بين يمين ويسار تقليدى ويسار تقدمى ونتفق على ضرورة أن تهتم الحكومة وكذلك المعارضة بتحديات التحديث الاقتصادى والاجتماعى والتكنولوجى فى ألمانيا وعموم الاتحاد الأوروبى وحتمية عدم الاقتصار على اللهاث خلف أجندة اليمين المتطرف كما قلت حقا.
أصدقكم القول، لا أشعر بتبدل جذرى فى حالى اليوم عما كانت عليه أمورى قبل سنوات ولا أعتقد أن ألمانيا المتقدمة ذات الدستور الديمقراطى العظيم وصاحبة الثقافة الليبرالية ستكرر مأساة ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. قدمت هذه البلاد طالبا جامعيا، ولم تحل كراهية أو عنصرية بينى وبين التقدم المهنى والسعادة الشخصية، وأشك كثيرا فى أن تنقلب الأوضاع رأسا على عقب فى قادم الأيام.
واليوم، فى ٢٠٢٢، يشارك الصديق المواطن الألمانى صاحب الأصول العربية فى برلمان ولاية برلين كنائب منتخب ويتقدم دوريا بمقترحات حول سبل التغلب على أزمة الغاز فى الشتاء القادم وطرق عدم التورط فى التمييز بين اللاجئات واللاجئين الأوكرانيين وبين اللاجئات واللاجئين العرب والمسلمين من آسيا وأفريقيا.
• • •
حين تحاورنا قبل سنوات قليلة قالت صديقتى المواطنة الألمانية من مجتمع الأغلبية: لا أريد أن أبدو هنا كالألمانية البيضاء التى كانت فى شبابها ذات نزعة يسارية ثم انقلبت على الأفكار التقدمية ما إن استقرت حياتها الأسرية والمهنية. إلا أن لكراهية الأجانب والعنصرية جذورا مجتمعية ينبغى التعامل معها إن نحن أردنا ألا تنزلق البلاد إلى تكرار كوارث القرن العشرين. الفقر والبطالة والفجوة الواسعة بين الأغنياء ومحدودى الدخل، كلها عوامل ترتب انتشار اليمين المتطرف فى شرق ألمانيا ومن غير مواجهتها لن تنحسر شعبية حزب البديل لألمانيا والمجموعات العنصرية الأخرى. تورط قليل من الأجانب واللاجئين فى جرائم ومخالفات جسيمة يخلق انطباعات بالغة السلبية فى مجتمع الأغلبية، والانطباعات تلك جوهرها التعميم ولا يفرق من يتأثرون بها بين الإدانة المشروعة لمرتكبى الجرائم وبين الشعور بالقلق والنفور من الآخر العرقى والدينى.
والخوف المبرر بين المجنسين والمقيمين الذى تحدثتم عنه يقابله خوف مبرر فى مجتمع الأغلبية من انهيار مستويات التعليم المدرسى والخدمات الاجتماعية فى أحياء المدن التى تسكنها أغلبية من الأجانب، والارتحال بالأسرة والأطفال بعيدا عن ألمانيا يقابله ارتحال الكثير من الأسر الألمانية المنتمية للطبقة الوسطى من الأحياء التى ترتفع بها كثافة الأجانب إلى «أحياء بيضاء» بحثا عن التعليم والخدمات الأفضل. الأمر معقد، والمواجهة لا تقتصر على الكراهية والعنصرية بل تمتد إلى اختلالات مجتمعية عديدة. القلق والخوف مبرران، والمواجهة الفعالة والنشطة للكراهية والعنصرية والاختلالات المجتمعية العديدة دون احتماء زائف بليبرالية المجتمع واستقرار البناء الديمقراطى ضرورة. وأغلب الظن أن القلق والخوف سيواصلان العبث بنا فى قادم الأيام.
واليوم، فى ٢٠٢٢، تعيش الصديقة مع أسرتها فى منطقة ريفية خارج العاصمة برلين. وفى اتصال هاتفى أجريته معها مؤخرا عبرت عن خوفها الكبير من الشتاء القادم ومن نقص غاز التدفئة وارتفاعات الأسعار المتواصلة ومن خطر الحرب النووية وروسيا والغرب يواصلان مواجهة الجنون فى أوكرانيا ومن كارثة التغير المناخى الذى سيورثه جيلنا والأجيال الأكبر منا لأجيال قادمة لا ذنب لها فيه.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات