بين الهجرة المسيحية والإسلاموفوبيا - محمد السماك - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 يناير 2025 12:43 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بين الهجرة المسيحية والإسلاموفوبيا

نشر فى : الأحد 21 نوفمبر 2010 - 9:30 ص | آخر تحديث : الأحد 21 نوفمبر 2010 - 9:30 ص

  روى لى بطريرك سابق للأرمن الكاثوليك فى العراق أن الرئيس العراقى الراحل صدام حسين كان يبدى ودا خاصا نحو الكنائس، وأنه كان بمناسبة الأعياد الدينية المسيحية يقدم فى كل عيد، ولكل كنيسة، مبلغا من المال (خمسة آلاف دولار) لتغطية تكاليف الاحتفال. وقال لى البطريرك إن الرئيس صدام حسين كان يرسل من يمثله إلى حضور هذه الاحتفالات لتقديم التهانى باسمه.

فماذا حدث لمسيحيى العراق؟

أثناء الاجتياح العسكرى الأمريكى فى عام 2003 واكبت القوات العسكرية بعثات تبشير إنجيلية. وفى أعقاب ما حل بالعراق من خراب ودمار، وما تسبب به من فقر مدقع لم يعرفه العراقيون فى السابق، تكثفت هذه البعثات التى كانت توفدها كنائس أمريكية مختلفة، حاملة مع الدعوة التبشيرية مساعدات إنسانية مختلفة.

لم تلقَ هذه البعثات أرضا صالحة. فالمسيحيون الشرقيون السريان والأشوريون والكلدان، الأرثوذكس منهم والكاثوليك، تصدوا لهذه الحملات الإنجيلية دفاعا عن عقيدتهم المسيحية الخاصة. والمسلمون السنة والشيعة تعاملوا معها وكأنها امتداد لقوات الغزو. إلا أن بعض الحركات الإسلامية وقعت فى خطأ عدم التمييز بين البعثات الانجيلية القادمة من وراء البحار.. والكنائس الشرقية الوطنية. فاعتبرت المسيحية واحدة وهى بالتالى لم تفرق بين الغزو العسكرى الذى استدرج غزوا تبشيريا إنجيليا.. وبين المسيحيين العراقيين الوطنيين الذين لم يستدعوا الغزو العسكرى، ولم يحتموا به، بل إنهم على العكس من ذلك وجدوا فى البعثات الإنجيلية اجتياحا لكنائسهم الشرقية مما حملهم على مواجهتها والتصدى لها. غير أن ذلك لم يكن واضحا لدى الحركات الإسلامية المحلية، التى تعتبر خطأ الغرب والمسيحية واحدا، وان البعثات التبشيرية الإنجيلية والكنائس الشرقية واحدا أيضا، وهى ليست كذلك.

وهكذا وجد المسيحيون العراقيون أنفسهم بين سندان الغزو الإنجيلى ومطرقة التطرف الإسلامى.

ثم إن المسيحيين العراقيين الذين لم يكن عددهم يزيد على المليون مواطن فقط، لم يكونوا جزءا من لعبة الصراع على السلطة فى العراق التى انفجرت بين السنة والشيعة، وبين العرب والأكراد والتركمان. وبالتالى فإن استهدافهم بالعمليات الارهابية لم يكن جزءا من الصراع على السلطة، الأمر الذى رسم وما زال يرسم الكثير من علامات الاستفهام الكبيرة حول الأبعاد الحقيقية لاستهدافهم.

وكما وقعوا ضحية الصراع الدينى بين البعثات الإنجيلية والحركات الإسلامية، كذلك وقعوا ضحية الصراع السياسى بين السنة والشيعة، وضحية الصراع العنصرى بين العرب والأكراد.

تشير الأرقام الإحصائية إلى أن أكثر من نصف مسيحيى العراق هاجروا من بلادهم حتى الآن. ويُخشى بعد الحادث الإرهابى الذى استهدف كنيسة سيدة النجاة فى بغداد أن ترتفع وتيرة الهجرة بحيث تنخفض نسبة عددهم إلى ما دون الربع.

ومن شأن ذلك أن يوحى للعالم بأن الإسلام مسئول عن هذه الهجرة، وانه يضيق ذرعا بالوجود المسيحى، وهو وجود أصيل وسابق حتى للإسلام، أو أنه لا يقبل المسيحية، مع أن الإيمان بها رسالة سماوية ركن من أركان الإيمان بالإسلام.

ويتزامن ذلك مع تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا فى الغرب، بمعنى كراهية الإسلام عن جهل به. فالهجرة المسيحية من العراق، ومن غيره أيضا، تغذى هذه الظاهرة التى تسىء إلى الإسلام والى المسلمين فى العالم. ومن المعروف أن ثلث المسلمين الذين يبلغ عددهم نحو مليار ونصف المليار إنسان يعيشون فى دول ومجتمعات غير إسلامية.

وتتمثل ظاهرة الإسلاموفوبيا بصعود حركات وأحزاب اليمين المتطرف فى أوروبا من فرنسا وهولندا وبريطانيا حتى النمسا وإيطاليا؛ وكذلك فى الولايات المتحدة، حيث تعكس المواقف المعارضة لبناء مسجد قرب موقع برجى التجارة العالمية فى نيويورك، ومحاولة إحراق القرآن الكريم، والاستهدافات العنصرية للمسلمين الأمريكيين على خلفية الانتماء الدينى، المدى الخطير الذى بلغته هذه الظاهرة.

ومن خلال هذه الصور المتقابلة، فالدفاع عن حقوق ومصالح المسلمين فى الدول غير الإسلامية يبدأ بالدفاع عن حقوق ومصالح المسيحيين فى الدول الإسلامية عامة، والعربية خاصة، وفى العراق تحديدا.

لقد أخطأ الغرب (خاصة إدارة الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش) فى اعتبار الإسلام والإرهاب وجهين لحالة واحدة. وأخطأ مسلمون (خاصة فى العراق) فى اعتبار المسيحية والغرب وجهين لحالة واحدة. فلا المسيحية هى الغرب. ولا الغرب يمثل المسيحية. ومن الخطأ الكبير التوجه نحو مسيحيى الشرق للرد أو للانتقام من مواقف غربية معادية للحقوق العربية أو لسمعة الإسلام وصورته.

فى الأساس لا يمكن تصحيح الخطأ بخطأ مثله، وفى الأساس ايضا فإن العالم العربى والعالم الإسلامى كله يدفع ثمن الخطأين معا.

فالهجرة المسيحية تمزق نسيج المجتمعات الوطنية، وتعرضها للتفكك من خلال سحب خيوط نسيجها المتشابك الذى عرفته وعرفت به منذ قرون عديدة. كما أنها تصوّر الإسلام على غير حقيقته، وعلى عكس ما يقول به، وعلى نقيض ما يؤكد عليه أساسا من اعتبار الاختلاف بين الناس آية من آيات الله فى الخلق، وتعبيرا حيا عن إرادته، وبالتالى من قبول بقاعدة التعدد ومن احترام لظاهرة التنوع، ومن إيمان بجميع الرسالات السماوية وبما أوحى الله فيها.

لقد عاش المسلمون والمسيحيون فى الشرق بمحبة وسلام وازدهار جيلا بعد جيل منذ 1400 سنة. ولن يكون الشرق شرقا من دون هذا العيش المشترك الذى أرسى قواعده الأولى النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) فى عهده إلى نصارى نجران. واليوم، وفى ظل الدولة الوطنية الحديثة، فإن احترام حقوق المواطنة فى المساواة الكاملة أمام القانون تشكل الأساس للحياة الوطنية المشتركة. وهذه المساواة كفيلة بوقف سيل الهجرة المسيحية وتسفيه ظاهرة الإسلاموفوبيا والتصدى لها.

محمد السماك كاتب وصحفي لبناني
التعليقات