فى عام 1995، أصدرت المحكمة الدستورية العليا، حكما تاريخيا ينتصر لاستقلال الصحافة ويدعم الحق فى حرية الرأى والتعبير، معتبرا انتقاد القائمين بالعمل العام حقا مكفولا لكل مواطن، حتى لو تضمن هذا النقد شططا أو انحرافا.
الحكم الذى أصدره رئيس «الدستورية» آنذاك المستشار عوض المر، شدد على أن التمكين لحرية عرض الآراء وتداولها بما يحول دون إعاقتها، أو فرض قيود مسبقة على نشرها، هى حرية يقتضيها النظام الديمقراطى، وغايتها النهائية الوصول إلى الحقيقة.
وأشار الحكم، الذى هو عنوان الحقيقة إلى أن تقويم اعوجاج السلطة ومحاسبتها ومساءلتها وإلزامها مراعاة الحدود والخضوع للضوابط التى فرضها عليها الدستور حق وواجب، وأن إجراء حوار مفتوح حول المسائل العامة ضمانة لتبادل الآراء على اختلافها، داعيا إلى أن تتفاعل الحكومات مع ما يجول فى عقول المواطنين من أفكار.
«ومن ثمّ كان منطقيا، بل وأمرا محتوما أن ينحاز الدستور إلى حرية النقاش والحوار فى كل أمر يتصل بالشئون العامة، ولو تضمن انتقادا حادا للقائمين بالعمل العام. إذ لا يجوز لأحد أن يفرض على غيره صمتا ولو كان معززا بالقانون، ولأن حوار القوة إهدار لسلطان العقل، ولحرية الإبداع والأمل والخيال.. وهو فى كل حال يولد رهبة تحول بين المواطن والتعبير عن آرائه، بما يعزز الرغبة فى قمعها، ويكرس عدوان السلطة العامة المناوئة لها، مما يهدد فى النهاية أمن الوطن واستقراره».
الحكم المشار إليه وأحكام «الدستورية العليا» فى هذا النطاق، صدرت فى وقت لم يكن الدستور القائم حينها يتضمن نصا يحظر العقوبات السالبة للحرية فى قضايا النشر والعلانية.
تمتلك مصر ترسانة ضخمة من القوانين السالبة للحرية فى قضايا النشر، والحقيقة أن نضال الجماعة الصحفية والمنظمات الحقوقية والأحزاب السياسية بإعادة النظر فى هذه العقوبات لم يتوقف خلال العقود الأخيرة.
قبل ثورة يناير بنحو 7 سنوات تلقى نقيب الصحفيين حينها الأستاذ جلال عارف وعدا من الرئيس الراحل حسنى مبارك بإلغاء الحبس فى قضايا النشر.
وخلال الجلسة الافتتاحية للمؤتمر الرابع للصحفيين، قال مبارك فى رسالة نقلها عنه صفوت الشريف أمين عام الحزب الوطنى، إنه لن يحبس أى صحفى أو مواطن مصرى بعد اليوم بسبب رأى منشور، مؤكدا أن هذا القرار «خطوة على طريق الحرية والديمقراطية ستتبعها خطوات لتكون مصر نموذجا للديمقراطية والحريات فى المنطقة»، معلنا رفضه لـ«أى تدخل يحد من استقلالية الصحافة أو يقيد حرية الرأى، حتى يكون الكاتب سيد قلمه بلا أدنى رقابة أو قيود».
وعد مبارك تم التحايل عليه، بالطبع، وظل سيف الحبس مسلطا على رقبة كل صحفى حر أو صاحب رأى معارض، وحاول كهنة الحزب الوطنى أكثر من مرة إقحام تشريعات جديدة تجيز الحبس فى قضايا النشر، إلا أن مبارك تدخل وعرقل تمرير تلك التشريعات.
سقط مبارك فى 2011، وأقر المصريون بعده دستورين حظرا صراحة الحبس فى قضايا النشر، ومع ذلك لا يزال الصحفيون يحبسون فى قضايا حسبة بسبب ممارسة حقهم فى انتقاد أداء السلطة أو اختلافهم مع تقديراتها وسياساتها وتوجهاتها.
آخر القضايا التى صدر فيه حكم على أصحاب رأى هى تلك القضية التى اتُهم فيها الزميلان الصحفيان حسام مؤنس وهشام فؤاد ومعهما المحامى زياد العليمى وآخرون بنشر وإذاعة أخبار وبيانات كاذبة «بقصد تكدير السلم العام وزعزعة الثقة فى مؤسسات الدولة والإضرار بمصالحها القومية».
أصدرت محكم جنح أمن الدولة طورائ فى هذه القضية أحكاما بالحبس تتراوح بين 3 سنوات إلى 5 سنوات، رغم وجود نص دستورى صريح ومادة بقانون تنظيم الصحافة والإعلام تحظر الحبس فى قضايا النشر، والمؤسف أن تلك الأحكام لا يجوز الطعن عليها ولا استئنافها استنادا إلى قانون الطوارئ، ولا يوجد أمام المحكوم عليهم سوى اللجوء إلى رئيس الجمهورية بصفته الحاكم العسكرى لإلغائها أو تخفيفها، وهو ما نتوقعه منه بعد اتخاذه خطوات تهدف إلى تخفيف القيود وفتح المجال العام، مثل عدم تمديد حالة الطوارئ وإطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان.
استراتيجية حقوق الإنسان التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى منتصف سبتمبر الماضى استهدفت تعزيز وحماية حقوق الإنسان والحريات الأساسية فى مصر، كما دعت إلى «تعديل التشريعات القائمة لتعزيز الاتساق بين القوانين الوطنية والمبادئ والضمانات الواردة فى الدستور والاتفاقيات الدولية والإقليمية لحقوق الإنسان المنضمة إليها مصر»، وأكدت على ضرورة مراجعة الجرائم المعاقب عليها وجوبيا بعقوبات سالبة للحرية، وهو ما لم يتم ترجمته إلى إجراءات ملموسة حتى تاريخه.
خلال أعوام 2014، و2015، و2016، بذلت اللجنة الوطنية للتشريعات الصحفية والإعلامية، جهدا كبيرا فى إعداد مشروع قانون لتنظيم الصحافة والإعلام وآخر لإلغاء العقوبات السالبة للحريات فى قضايا النشر، القانون الأول أرسلته الحكومة إلى البرلمان وتم تفكيكه لاحقا إلى 3 قوانين، أما الثانى فدخل الدرج وسقط من الأجندة التشريعية للبرلمان.
أظن أنه قد حان الوقت بعد ما أثارته القضية الأخيرة من لغط، لإخراج مسودة مشروع قانون إلغاء الحبس فى قضايا النشر الذى أعدته «الوطنية للتشريعات الصحفية»، إنفاذا لمواد الدستور، وحتى تتحول بنود استراتيجية حقوق الإنسان إلى واقع وممارسات.