ما أكثر ما كان لفظ «الحرام» يتردد على لسان والدتى، أكثر بلا شك مما كان يرد على لسان أبى أو أحد من أخوتى. لم يكن السبب أن أمى كانت أكثر تدينا، بل إنها كانت أرقنا قلبا. لم تكن أمى تذكر «الحرام» كوصف لشرب الخمر، إذ لا أظن أنها رأت الخمر فى بيتنا قط، ولا لوصف التمثال الصغير الذى كنت أضعه على مكتبى، إذ لم يخطر بذهنها قط أننى سأقوم بعبادته. ولا بالطبع لوصف عزف الموسيقى أو الغناء، الذى كانت تحبه ولو كان يتضمن كلمات الحب والعشق، طالما كان اللحن جميلا.
حاولت أن أبحث عن المعنى المشترك فى أكثر ما كانت تصفه أمى بالحرام فوجدت أنه القسوة. قلت لنفسى انه ليس غريبا أن يفهم كل شعب دينه بما يتفق مع طبعه، فقد لاحظت عندما زرت بعض البلاد الإسلامية، كتركيا وباكستان وإندونيسيا، بل حتى فيما رأيت من بلاد عربية، أن التدين يتطبع فى كل بلد بشخصية شعبه. والشعب المصرى من أقل شعوب العالم ميلا إلى القسوة (وربما كان هذا هو السبب الحقيقى فى دأب الأجانب على التعبير عن حبهم للشعب المصرى وللإقامة فى مصر رغم كل ما يصادفه الأجنبى فى حياته اليومية فى مصر من متاعب).
كراهية القسوة والاشمئزاز ممن يماسها، نلاحظهما فى تعليقات المصريين على ما يرونه من مناظر وما يمرون به من أحداث. وهم كما يشمئزون من القسوة يستغربونها كلما رأوها، إذ لا تبدو لهم مشاعر القسوة مشاعر طبيعية بالمرة. بل اننى قد أذهب إلى حد الربط بين كراهية المصريين للقسوة وبين ما اشتهروا به من خفة الظل وتقدير النكتة الجميلة. فالشخص القاسى ليس فقط غليظ القلب بل هو أيضا ثقيل الظل. لا عجب إذن أن يستخدم المصريون بكثرة لفظ «الحرام»، أى الشىء الممنوع دينيا ويغضب الله، فى وصف القسوة. ذكرنى هذا بما كنت قد قرأته مرة فى كتاب جميل لذلك الرجل المصرى الجميل أيضا، عصمت سيف الدولة، (مذكرات قرية)، كتاب الهلال، أغسطس 1995، يصف فيه أهل قريته الصعيدية (الهمامية) فيقول انهم إذا وصفوا شخصا بالكفر، فإنهم لا يقصدون الإلحاد أو الشرك بالله، إذ إن الكفر فى نظرهم هو «الظلم»، فالكافر هو الظالم، ولا يصف بالكفر غيره.
ثم قرأت منذ أيام قليلة عمودا بديعا للكاتبة الموهوبة (سحر الموجى) فى جريدة المصرى اليوم (16/12/2012) كان هو فى الواقع ما جعلنى أتذكر كل هذه الأشياء. كان معظم المقال يتكون من اختطاف طويل من كلام عن مصر والمصريين، للشاعر والصحفى المغربى حميد زيد، ذكره فى صفحته على (الفيس بوك)، ولكن يبقى لسحر الموجى فضل اكتشاف أنه كلام متميز عن غيره ثم تعريفنا به. يقول السيد حميد زيد:
«رغم أننى لم أزر مصر يوما فإننى أشم رائحتها كأننى أعرفها حارة حارة، وكأننى ولدت فيها. وهى حالة لا تحدث لى مع أى مكان آخر، بل حتى فقرها وذكاء المصريين فى اللعب به، وتطويعه، يجعلنى أحب هذا الفقر وأستلذه. ربما لا يعرف الإخوان والسلفيون مصر هذه، وربما لا يشعرون بنفس الشعور الذى نشعر به، نحن الذين لا ننتمى إلى هذا البلد، لكننا نحبه. وربما يشمون تلك الرائحة التى سكنتنا بفعل الأفلام والغناء والأدب...».
وبعد أن يذكر حميد زيد أسماء المصريين الذين أثروا وجدانه، من رمسيس يونان ولويس عوض، إلى نجيب محفوظ وسعاد حسنى، إلى سيد درويش وتحية كاريوكا ...الخ، يقول إن الإخوان والسلفيين يسعون إلى استيراد مصر أخرى غريبة عن المصريين، ثم يضيف: «إذا كانت السلفية تعنى الحنين إلى الماضى، فلا أجمل من أن يحن المصريون إلى أفلامهم الأبيض والأسود، وإلى ليلى مراد وفريد الأطرش وأسمهان، وإلى الارستقراطى المصرى الذى حرمتنا منه الديكتاتورية الناصرية، ولم يعد هو الآخر إلا ذكرى جميلة. حتى فى تفاهة الإبداع المصرى، هناك لذة ومتعة، إذ لا شىء يعوض فيلما لإسماعيل ياسين فى لحظة ضجر، بأن تستلقى وتسلم نفسك لمتعة سهلة لا تتطلب أى جهد، إلا أن هذه الأشياء هى أىضا صارت حراما الآن».
سألت نفسى عما إذا كانت كراهية القسوة هى أيضا عنصر مشترك فى كل أو معظم هذه الشخصيات المصرية التى ذكرها الشاعر المغربى. لقد عرفت معرفة شخصية لويس عوض (وإلى درجة أقل) نجيب محفوظ، وأستطيع أن أقطع بكراهيتهما الشديدة للقسوة. ولكن هل يمكن لأحد ممن عرف أو قرأ التاريخ الشخصى لسعاد حسنى أو ليلى مراد أو إسماعيل ياسين ...الخ أن يصف أيا منهم بالقسوة؟ بل حتى يوسف وهبى الذى كان يعشق تمثيل أدوار الشخصيات القاسية الكريهة، كشخصية راسبوتين أو الحاكم بأمر الله، ويحب المبالغة الشديدة فى الكلام عن الرذيلة والفضيلة، ولا يكف عن إلقاء المواعظ، فيشبه الشرف بعود الثقاب الذى لا يشتعل إلا مرة واحدة. ألم يكن يوسف وهبى نفسه فى الحقيقة، إلا رجلا بسيطا وديعا كسائر المصريين، وألم تكن القسوة عنده إلا تمثيلا فى تمثيل؟
كثيرا ما يقال إن المصريين شعب يحب الوسطية أو الاعتدال، ومن ثم فهم يحبون الوسطية فى التدين أيضا. ولكن هل هذا هو أنسب وصف للشخصية المصرية؟ إنه لا يعطى المصريين حقهم، إذ إن الموقف المتوسط فى أى صفة ليست بالضرورة أفضل المواقف. ولكن «كراهية القسوة» هى بلا شك من أجمل الصفات طرّا، ومن حق المصريين أن يفاخروا بها. إننى أميل إلى اعتبار توفر هذه الصفة أو عدم توفرها معيارا أفضل بكثير من أى معيار آخر قد يخطر بالذهن لتحضُّر أى شعب أو عدم تحضُّره، وعندما يأتى الوقت الذى نكتشف فيه تفاهة التقدم التكنولوجى بالمقارنة بهذه الخصلة الرائعة، لابد أننا سنعيد تصنيف الأمم فى مضمار التحضر والترقى والتقدم.
•••
إذا كان هذا التفكير صائبا، فكيف إذن نفسر القسوة الزائدة التى رأيناها فى تصرفات أعداد كبيرة من المصريين، سواء فى أحداث ماسبيرو أو شارع محمد محمود فى العام الماضى، أو أمام قصر الحكومة الاتحادية فى مصر الجديدة منذ أسبوعين، ثم فى مدينة الإنتاج الإعلامى منذ بضعة أيام، بل وفى بعض التصريحات التى صدرت من بعض زعماء الإخوان المسلمين والسلفيين فى وصف خصومهم من العلمانيين أو الليبراليين. هل هو تطور مخيف طرأ على الشخصية المصرية فى السنين الأخيرة، أو فى أعقاب ثورة يناير، مما ينبئ بأشياء مخيفة أخرى فى المستقبل؟
إن كثيرين من علماء الاجتماع يرفضون رفضا باتا الكلام عن وجود «شخصية قومية» وينفرون من الكلام عن شىء اسمه «الشخصية المصرية» أو الإنجليزية أو الأمريكية ...الخ، ومن جانبى أعتقد أنه، وإن كان من الواجب أن يؤخذ الكلام عن «شخصية» أى شعب من الشعوب، بالكثير من الحذر فإننى لا أرى أى غضاضة فى الحديث عن الشخصية المصرية مثلا أو الإنجليزية... الخ. ان من الطبيعى جدا أن يكون لكل شعب شخصيته التى شكلها تاريخه وجغرافيته ومناخه وموارده الطبيعية...الخ. ومع هذا فلا بد من الاعتراف أيضا بأنه فى داخل الشعب الواحد لابد أن تختلف بعض ملامح الشخصية القومية من شخص لآخر ومن طبقة اجتماعية لأخرى. نعم، هناك ما يميز الإنجليز بصفة عامة، عن الفرنسيين أو الألمان بصفة عامة، ولكن هل يمكن إنكار أن الشخصية الإنجليزية كما يعبر عنها الاقطاعى صاحب الأملاك الذى يعيش على عمل غيره، هى نفسها الشخصية الإنجليزية التى يعبر عنها الفلاح الإنجليزى أو العامل الصناعى، مهما كان هناك بين الثلاثة من صفات مشتركة؟
ما دام الأمر كذلك فلابد أيضا من الاعتراف بأن الشخصية القومية تتعرض أيضا للتغير مع تغير الظروف، ومع تغير التركيب الطبقى للمجتمع، وإن كان هذا التغير فى الشخصية القومية لابد أن يكون بطيئا جدا، إذ إن ما تكوَّن عبر مئات (وربما آلاف) من السنين، لا يمكن أن يزول بتأثير ما يحدث خلال ثلاثين أو أربعين عاما.
لقد مرت مصر خلال الأربعين عاما الماضية بتغيرات اجتماعية كبيرة أحدثت شرخا فى بنيان المجتمع المصرى، وكان لابد أن يظهر أثرها فى مظاهر السلوك والتفكير فى مصر. إننى لم أشعر بالارتياح قط إلى القول بتغير «الشخصية المصرية» كنتيجة لهذه التغيرات، ومع ذلك فلابد من الاعتراف بأن التغير الذى حدث فى التركيب الطبقى للمجتمع المصرى خلال هذه الفترة، دفع إلى أعلى بالسمات الشخصية للشرائح الاجتماعية التى طغت على سطح المجتمع، وقد كانت هذه الشرائح، بسبب صعودها نفسها، هى الأعلى صوتا والأكثر جلبة.
إننى أميل إلى الاعتقاد بأن هذا هو تفسير ما ظهر فى مصر فى الشهور الأخيرة من مظاهر قسوة غير مألوفة فى سلوك المصريين، بعضهم إزاء بعض، سواء كانوا من دين مختلف، أو من نفس الدين. شرائح اجتماعية زاد عددها ونما تأثيرها خلال الأربعين عاما الماضية، وعلى الأخص خلال فترة حكم حسنى مبارك، بمتاعبها الاقتصادية، واستفحال الازدواجية والفوارق بين الطبقات، مع انتشار تعليم ردئ وإعلام أكثر رداءة، انضم إلى التعليم الردئ فى إفساد العقول وزيادة نار الازدواجية التهابا.
كان المذهل أيضا أن هذه المظاهر غير المألوفة للقسوة الزائدة، تقترن برفع شعارات مستمدة من الدين هى النقيض التام لمشاعر الكراهية والرغبة فى الانتقام التى تسيطر على مرتكبى أعمال القسوة، ولكن منذ متى كان ما يقوله المرء من كلام، وما يرفعه من شعارات، يعبر تعبيرا حقيقيا عما يحمله فى داخل صدره من مشاعر؟