فيما نحن منغمسون حتى اخر رمق فى المهاترات الصباحية والتراشقات على محطات التلفزة ليلا، يبقى العالم يدور كما كان ويعمل فى نهارات طويلة ليرسم خطوط مستقيمة وواثقة نحو خريطة المستقبل القادم.. ذاك المستقبل ليس كما هو حال الخطط الخمسية الشهيرة فى تاريخنا العربى المعاصر، وإنما تلك المطولة نحو عام 2030 أو 2050 أى ما بعد بعد البعد! التخطيط هو جزء مكمل لثقافات هذه الشعوب فيما نحن «كله بالبركة». فماذا نقول فيما بعضهم يفسر حوادث القطارات المميتة إلى كونه مجرد «قضاء وقدر»!
•••
نلتفت شرقا إلى دول كانت قبل بضع سنين مستلقية فى مستنقعات الفقر والبطالة والمرض والجهل كما نحن حينها والآن أيضا، وهى الآن تخطت هذا العالم بمراحل. بدأت سباق المسافات الطويلة (اقتباس من رواية عبدالرحمن منيف) تضع الخطة خلف الخطة لسنوات طويلة قادمة فتكون بين مصاف الدول الكبرى ليس حسب مقاسات بعض دولنا فى أكبر مطار وأعلى عمارة أو؟ منذ أيام أعلنت الصين عن خطتها للتعليم الجامعى والتقنى، وهى بذلك أعلنت أنها تستثمر فى الإنسان كما استثمرت لسنوات فى الاقتصاد. فبينما تصدر الصين لنا كل ما نستهلكه تقوم هى بوضع قدراتها الكاملة لمحو أمية الصينيين، وخلق كوادر قادرة مع حلول عام 2030 لتصبح القوة المتعلمة فى العالم، وبذلك لن تصدر الصين لنا كل احتياجاتنا اليومية حتى التراثية منها بمعنى من عروس المولد (وعلى فكرة ألف مبروك فقد تحجبت مؤخرا!) إلى الأجهزة المتطورة التى لا نستغنى عنها فى أيامنا هذه، بل ستقوم بإرسال خبراء فى مختلف التقنيات الحديثة. المثير حقا فى خطة الصين التعليمية أنها تنظر إلى الإنسان كاساس للبناء وكأساس لنمو الدول، فيما نحن لا نزال ننبش مخلفات الماضى ونرفع التراب عن بعض الخطط البالية لنعيد تدويلها بمسميات جديدة ربما أو مستوحاة من التراث، ولا ضرر فى تلبيسها الصبغة الدينية أيضا، فكله اليوم يسير على هذا المسار!
مثير حقا ما تقوم به الصين من بناء واحتضان للشباب من أبنائها وبناتها فيما نرسلهم ليبتلعهم البحر أو غيض الصيف الحارق فى صحراء النفط! بلد عرفت أن تبنى اقتصادا يعتمد على البشر فيما نحن نكثر من الخطط والأحاديث المنمقة المزركشة، وهى فى كاملها ومضمونها تقول لمن يريد أن يتعلم فعليه أن يدفع، فقد تخلت دولنا عن مسئولياتها جميعا وجلست تحتسى كوب الشاى وتدخن الشيشة على ناصية الطريق أو فى قاعات المنظمات الأقليمية والدولية، ترسم صورة وردية لعالم خيالى وتعيد تكرار تلك العبارات المرتبطة بالحقوق الأساسية للإنسان فقد احترف مسئولونا مهنة الكلام بما يحب أن يسمعه العالم.. كلام حضارى متطور فيما الفعل كما هو، بقايا لمؤسسات مهترئة وموظفين مغلوب على أمرهم، أما نتيجة قلة المعرفة والحيلة أو تدنى المرتب والتدريب والحوافز أو انتشار الفساد حتى فى اجهزة التعليم ومؤسساتها.
بعضنا من الدول الفقيرة أو حتى متوسطة الدخل وقد يكون فى ذلك ربما بعض العذر وليس كله، إلا أنه حتى دولنا التى تمتلك المال عجزت عن الاهتمام الحقيقى بالتعليم وتركت أبناءها ليبتلعهم اقتصاد السوق فى تعليمهم وصحتهم ومسكنهم هم ضحايا للعرض والطلب! المسألة إذن ليست فى توفير المال بل ربما الإرادة والثقافة أو ربما أيضا فى قيمة الإنسان عندنا وقيمته عندهم.. كيف أننا مجرد رعايا لا قيمة لحياتهم وأرواحهم ومستقبلهم فيما هم ينظرون إلى الإنسان على أنه ثروتهم الوحيدة الباقية.
•••
يقول محمد بنيس فى كتابه «الحداثة المعطوبة» نقلا عن موقع «جهات الشعر» الذى يشرف عليه الشاعر العربى قاسم حداد».. فالعطبُ، الذى قادَنا إلى هذا المآل، ثقافى ومنْ طبيعة ثقافيّة. هذا رَأيى. يبدأ العطبُ منَ التعليم، أيْ من مَضامينه وطَرائقه، ثمّ يمتدُّ إلى السُّلطة والمؤسَّسة، بالمعْنى الأوْسَع لكلٍّ منهُما، فى الحياة العَائلية والاجتمَاعية والسّياسية. إنّه المشتركُ، الذى لا ينفصلُ فيه المشرقُ عن المغْرب، ولا يتميّز فيه تقدميٌّ عن مُحافظ. قامَ التعليمُ على مُحاصَرة الحُرية، فى اللّغة والأدَب والفنُون والفكْر. إذْ إنّ الحريةَ، حريةَ الفرد والجَماعة، هيَ مبدأ الحَداثة السابق على كلِّ مبْدأ آخَر. فثقافةُ الحرية هى ثقافةُ العدْل والمُساواة بيْنَ جميع أبْناء وبنَات الوطَن الوَاحد فى الكرامَة والمعْرفة والاخْتيار والاعْتقاد والحُلم والخيَال والتّعْبير. ثقافةُ الحُرية هى شهادة ميلاد المُواطن، فى دوْلة الحقّ والقانُون، الذى يُساوى بيْن الجَميع ويتساوَى فيه الجميع. والتعليمُ الذى حاصَر الحريةَ هُو نفسُه الذى عمّمَ الجهْل. فالجهْلُ هو الكلمةُ العُليَا لمنْع الذّاتيات، بأفُقها المفتُوح على اللاّنهائى. وهُو، بالتّالى، رحمُ العُبودية، بجَميع أشْكالها. أغلالٌ تَنْزعُ الوضْعَ الإنسانى عَن الإنْسان. هذا ما سَعَى التّعليمُ إليْه. وهَا هى عواصفُ الجهْل تنزلُ منَ الأعَالى التى لا نَراها، وتنتشرُ فى حَياتنا، الفرديّة والجَماعيّة، باسْم الحقيقة الأبَديّة».
•••
لا ضير إذن من أن نبدأها هنا من الخلل الأكثر إلحاحا اليوم ألا وهو منع تعميم الجهل، وخلق أجيال قادمة أكثر ثقافة ومعرفة وحرية، فالفضاء لا حدود له سوى جهلهم وتجهيلهم!