من أَقيم ما يُوصف به أى اقتصاد يجاهد ليتطور أنه صار مُزدهرا تصديريا. ولا مبالغة فى ذلك طالما أن القبول الذى تجده صادرات هذا الاقتصاد فى الأسواق العالمية هو الإشادة الدولية الوحيدة المعتبرة لدينا، وهو الصفة التى تختزل فى طياتها جميع الصفات الاقتصادية الحسنة. والازدهار التصديرى الذى نقصده هنا لا يقتصر على النمو الكمى فى حجم الصادرات، رغم أهمية هذا النمو فى المراحل الأولى للتنمية؛ لكننا نذهب لأهم من ذلك ونقول إن نوعية هذه الصادرات ونسبة المكوّن المحلى فيها ودرجة رُقيها التكنولوجى هى دليلنا الأساسى على ذلك الازدهار.
وحين ننطلق من افتراض أن اقتصاد ما يتعرض لضغوط هائلة على توازنه الخارجى وعلى سعر صرف عملته، فيرجع ذلك بالأساس لانكشافه تجاريا وللتفوق المستمر لوارداته على صادراته. وإزاء هذه المشكلة العويصة، سيكون أمام هذا الاقتصاد طريقين رئيسيين لمقاومة تلك الضغوط. فإما أن يكافح جاهدا لزيادة حجم صادراته وضبط وترشيد وارداته، أو يستسلم للمسكنات الاقتصادية ويتوسع فى الاستدانة من الخارج. وفى الفقرات القادمة، واعتمادا على الواقع الراهن للتجربة المصرية، نسعى للتأكيد على أن الطريق الأول، مهما بلغت مشقة المسير عليه، هو الأقوم والأرشد مقارنة بالطريق الثانى.
• • •
عندما زُفّت البشريات حول الإنجاز التصديرى المصرى خلال العام المنصرم 2021، تلقيت ذلك بسعادة مشوبة بالحذر. فالسعادة سببها واضح، وهو أن الاقتصاد المصرى قد حقق، من حيث الكم، القيم التصديرية الأعلى فى تاريخه؛ إذ بلغت قيمة الصادرات «غير البترولية» خلال العام الماضى نحو 31 مليار دولار؛ ليتحقق بذلك معدل ضخم للنمو التصديرى المصرى يناهز 26% خلال عام واحد. وبينما الحال كذلك، فما هو الداعى إذن للحذر الذى اختلط بتلك السعادة؟!
إن أى اقتصادى باحث عن الموضوعية ستغلب عليه صفة الحيطة أثناء قيامه بالتحليل وسمة الحذر عند استخلاصه للنتائج. وبالنظر فى ضخامة هذا الإنجاز التصديرى المصرى، فالحذر ينشأ عند تحليل عوامل تحقيق هذا الإنجاز؛ أهى داخلية أم خارجية؟ ويتأكد حال معرفة فرص استمراره؛ أهى عارضة أم مستدامة؟ ولما كانت التقارير الحكومية لم تُعلن بوضوح عن الأسباب والعوامل المفسرة لنمو الصادرات المصرية خلال العام 2021، واكتفت بالتأكيد على أن هذا الإنجاز يؤكد سلامة سياساتها الاقتصادية الداعمة للصادرات؛ فإن ذلك يلقى على المتخصصين عبء البحث عن هذه الأسباب، ظاهرة وباطنة. وبموضوعية شديدة، فإن أهم ما يلفت انتباهنا فى هذا الصدد هو دور الظروف الدولية المواتية فى دعم نمو الصادرات المصرية خلال العام الماضى. وزيادة الطلب الإقليمى (والطلب الأوروبى تحديدا) على الصادرات المصرية نراه أهم الأسباب قاطبة فى هذا السياق. فالصادرات المصرية أضحت أفضل من حيث التنافسية السعرية مقارنة بالصادرات الصينية والآسيوية؛ كون الأخيرة مأزومة بمشكلات عديدة فى تكاليف الطاقة وأنشطة النقل الدولى واللوجيستيات. وما يؤكد ذلك ويزيده رسوخا أن نفس هذه الظروف الدولية قد دعمت نمو صادرات أغلب الدول قريبة الشبه بالاقتصاد المصرى، لتحقق هى الأخرى إنجازات تصديرية ملموسة خلال العام الماضى.
وإذا كانت المحصلة المنطقية لما تقدم هى أن العوامل الخارجية تفسر جزءا رئيسيا من الإنجاز التصديرى المصرى، فإن ذلك لا يبخس أو يقلل البتة من هذا الإنجاز؛ بل هو يبرهن مجددا على قدرات الإنتاج المصرى وما يتحلى به من مرونة فى غمار العوارض والأزمات والجوائح الدولية. لكنه، وفى الوقت نفسه، يجعلنا نضع الأمور فى نصابها الصحيح، إذا كنا حقا جادين فى تقديم الدعم الذى يحتاجه قطاع التصدير ليستمر إنجازه، أو نبحث بصدق عن آليات مستدامة لخلق الفرص التصديرية التى يحتاجها المُصدّر المصرى فى الأسواق الدولية.
• • •
هناك قضيتان يجب ألا يُهمل ذكرهما عند الحديث حول الإنجاز التصديرى المصرى: الأولى تتأمل فى نوعية الصادرات المصرية، والأخرى تُحلل علاقة الصادرات بالواردات فى مصر. ولو أعدنا النظر فى التقارير الحكومية حول الأداء التصديرى المصرى فى عام الطفرة 2021، لوجدنا أن المنتجات الكيماوية والأسمدة ومواد البناء تقع على رأس قائمة الصادرات المصرية. ونظرا لأن هذه النوعية من الصادرات تسيطر على هيكل الصادرات المصرية لعقود عديدة مضت، وأنها إما «شبه بترولية» أو قريبة الصلة بالمواد الخام ولا تحتاج لفنون الإنتاج المتطور أو التكنولوجيا فائقة التقدم؛ فلذلك كثيرا ما ترتفع فيها نسب التلوث البيئى و/أو تنخفض فيها القيم المضافة المحلية. ومادام هيكل الصادرات المصرية مستمرا على وضعه ذاك، فإن السياسات الحكومية الرامية للنهوض بالصادرات يجب أن تصرف جل وقتها وأدواتها لمحاولة تعديل هذا الهيكل. وإلا، فإن جهود الدعم الكمى للصادرات، واستهداف الحكومة لتحقيق 40 مليار دولار صادرات غير بترولية خلال العام الحالى، لن تسفر إلا عن نتائج محدودة على صعيد التنمية التى يحتاجها بشدة الاقتصاد المصرى حاليا.
على أن العلاقة المعقدة والمتداخلة بين الصادرات والواردات فى مصر تستحق مكانة تحليلية أكبر مما نراه ممنوحا لها فى واقع الاقتصاد المصرى ومستقبله. فبينما زادت الصادرات المصرية كميا بمعدلات غير مسبوقة، فإنها مازالت غير قادرة على تضييق الفجوة المتسعة بينها وبين الواردات. ويمكن أن نرد ذلك لعاملين جوهريين: الأول أن الزيادة المطردة للواردات المصرية تعنى أن هيكل الإنتاج المصرى ما زال لا يلبى تطلعات الاستهلاك المحلى. والثانى أن شطرا لا بأس به من الصادرات المصرية يعتمد على نسبة حاكمة من المكونات المستوردة وتنخفض فيه نسبة المكونات المحلية. ومن ثم، فكل زيادة فى التصدير تدفع الواردات للتحليق!
وأيا ما كان الأمر، ورغم أن البيانات التفصيلية للميزان التجارى المصرى خلال العام 2021 غير متاحة تحت أيدينا أثناء كتابة هذه السطور، فإن الماضى القريب لهذا الميزان يشير لاستمرار حالة العجز القائمة فيه. ولتلافى هذا الوضع المزمن، لا بديل أمام الاقتصاد المصرى غير تفعيل وتعظيم جهود ترشيد الاستيراد، وخصوصا من الواردات الكمالية، ولا حل بغير الاستبدال التدريجى للمكونات المستوردة فى الصادرات المصرية بمكونات محلية مصرية خالصة؛ مع الاستمرار فى جهود الدعم النقدى للمصدرين. ولقد نشرت لنا «مؤسسة الأهرام» مؤخرا ضمن إصداراتها مساهمة فكرية متخصصة حول ما نعتقده ملائما للنهوض العاجل بالصادرات المصرية. وهذه المساهمة بها من التفاصيل ما قد يفيد القارئ النهم الذى يسعى للاستزادة فى هذا الموضوع الحيوى.
• • •
إذا بدا التحليل السابق حذرا تجاه الإنجاز التصديرى الذى تحقق للاقتصاد المصرى، فإن ما يقلل هذا الحذر أو يدحض حجج وجوده أن يساهم هذا الإنجاز فى ضبط الحاجة للاستدانة الخارجية. فمن الطبيعى أن كل نمو كمى فى الصادرات يزيد مباشرة من موارد النقد الأجنبى المطلوبة لتمويل أنشطة الاستيراد أو لخدمة الديون الخارجية القائمة مع تقليل الحاجة لمزيد من الاستدانة. والسؤال الذى يطرح نفسه هنا هو: أليس من العجيب أن يقترن ويتزامن الحديث حول هذا الإنجاز التصديرى المصرى مع الاحتفاء بعودة مصر لمؤشر «جى بى مورجان» للسندات الحكومية للأسواق «الناشئة»؟! ذلك أن الاقتران والتزامن بينهما يعنى نظريا أن نمو الصادرات لا يُغنى عن الحاجة لمزيد من الديون الخارجية. وهذا ما يرفضه المنطق الاقتصادى السليم.
وقبل الخوض فى طبيعة العلاقة الشائكة بين الصادرات والديون فى الاقتصاد المصرى، فإننا نشعر بغُصة شديدة ونرفض استمرار وصف الاقتصاد المصرى بأنه «سوق ناشئة»، حتى ولو أتى هذا الوصف فى سياق معولم لا يقتصر على الاقتصاد المصرى وحده. ثم إنه إلى متى تظل السوق ناشئة فى منطق من أطلقوا هذه المصطلحات وصدروها لعقولنا فى غفلة؟! فلقد مضت عقود عديدة ونحن نسمع ونقرأ هذا المصطلح المؤسف. أو لم تكبر بعد الدول الآخذة فى النمو وتشب عن طوق النشوء ذاك؟!
ومهما يكن من أمر، وبالعودة لموضوعنا الأساسى، فلنا أن نتفهم إدراج مصر ضمن المؤشر المذكور كخطوة ضمن خطواتها المهمة لتعديل هيكل مديونيتها الخارجية لصالح الديون طويلة الأجل قليلة الأعباء؛ ولنا أن نقبل ذلك الإدراج ما لم يتمخض عنه توسع فى الدين الخارجى بشكل ينوء بحمله الاقتصاد المصرى حاليا ومستقبلا. لكننا، وقبل كل ذلك، نعلم يقينا أنه بالقدر الذى تنهض فيه القدرات التصديرية المصرية ستقل بالتأكيد حاجته المستقبلية لهذا الإدراج أو غيره من بدائل الاستدانة الخارجية عالية التكلفة. وتجارب الدول الناجحة تصديريا تشهد معنا على ذلك.
وقد يكون من المفيد هنا إعادة تذكير قارئنا الحصيف بأن التمويل الخارجى بصوره المختلفة، دينا كان أم استثمارا أجنبيا، يكون مُعززا للتنمية الاقتصادية إذا ساهم فقط فى تطوير القدرات الإنتاجية والتكنولوجية والتصديرية للاقتصاد المصرى. فكل نقد أجنبى يتدفق محليا يجب توظيفه بشكل يساعد فى توليد مزيد من هذا النقد، وإلا وقعنا أسرى لدوامة الديون. ولن يحدث ذلك بطبيعة الأمور بدون توظيف النقد الأجنبي ــ بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ــ لخدمة أنشطة التصدير. فحين ننفق مثلا على البُنى الأساسية من التمويل الأجنبى، يجب أن تكون أعيننا على التصدير. وحين نشجع الاستثمارات الأجنبية على التدفق، يجب أن نحفزها لتتوطن فى القطاعات التصديرية. وحتى إذا توسعنا فى أنشطة التعليم والتدريب ببعض من مصادر التمويل الأجنبى، يتعين أن نستهدف من وراء ذلك تصديرا «مؤقتا» لعمالتنا الوطنية الماهرة. فرؤيتنا التنموية هى أن كل تمويل أجنبى لا يُنمى أو يُوسع قدرات التصدير، تكون تكاليفه باهظة على الحاضر والمستقبل!
• • •
عندما تذهب للطبيب لتخبره ما بك من أوجاع وآلام، سيبادرك بسؤال حول تاريخك المرضى وآخر حول توقيت حدوث هذه الأعراض. فإذا تبين له أنك صاحب تاريخ مرضى مزمن، وأنك من أولئك الذين يستسهلون تناول المسكنات، فأغلب الظن أنه سيطلب إليك التوقف فورا عن فعل ذلك، وسيدعوك لتناول الأدوية التى يمكنها معالجة أمراضك لا ما تشعر به من أعراض. لكنه قبل أن يشرع فى تقديم وصفته الطبية، سينصحك مخلصا بأن تتجنب الأمور التى تفاقم من أمراضك المزمنة. ولسان حاله حينها يقول إن الوقاية خير من العلاج. وبالمثل، فإن الاقتصادى، بصفته طبيب الاقتصاد، لسان حاله ومقاله يلهج دائما بالقول إن التصدير خير من الاستدانة!