القضية المسكوت عنها - جلال أمين - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 2:22 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القضية المسكوت عنها

نشر فى : الجمعة 23 مارس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 23 مارس 2012 - 8:00 ص

تمتع جمال عبدالناصر بشعبية كبيرة بين منتصف الخمسينيات ومنتصف الستينيات. بل بدا وكأن الشعب على استعداد لأن يغفر له الهزيمة العسكرية فى 1967 رغم فداحتها، فخرج الناس على بكرة أبيهم يشيعونه عند وفاته فى سبتمبر 1970، فى جنازة مهيبة وبكاه الكبار والصغار.

 

لم يكن سبب هذه الشعبية الكاسحة أن عبدالناصر كان حاكما ديمقراطيا، فقد كان العكس بالضبط هو الصحيح. أحبه الناس رغم ديكتاتوريته بسبب إنجازاته العظيمة فى مجال التنمية الاقتصادية (وعلى الأخص فى التصنيع وبناء السد العالى)، وبما حققه من خطوات عظيمة نحو تحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية، وكذلك بسبب مقاومته البطولية للاستعمار، والتى تمثلت فى انضمامه إلى حركة الحياد الإيجابى وعدم الانحياز، ثم فى تأميم قناة السويس ومقاومة العدوان البريطانى والفرنسى والإسرائيلى فى 1956، ومن ثم التخلص النهائى من الاحتلال الإنجليزى، وتأييده لحركات التحرر من الاستعمار فى العالم العربى وخارجه.

 

لم يتمتع شخص آخر بمثل هذه الشعبية فى مصر، طوال السبعين عاما الأخيرة من القرن العشرين إلا مصطفى النحاس. كان النحاس من نوع مختلف تماما من الناس، ومع ذلك عشقه المصريون عشقا، ولم تستطع ثورة 1952، رغم كل جهودها لمحو التاريخ السابق عليها من أذهان الناس، استئصال شعبية النحاس. فلما مات فى 1965، شيعته الآلاف المؤلفة من المصريين فى حزن حقيقى مثلما شيعوا عبدالناصر بعده بخمس سنوات.

 

كان مصطفى النحاس يؤمن بالديمقراطية إيمانا عميقا، ويمارسها بإخلاص، ولم يحاول استغلال شعبيته فى فرض رأيه على من حوله. ولكن الديمقراطية لم تكن هى السبب الأساسى لحب الناس له. وإنما يرجع هذا الحب قبل كل شىء إلى نضاله المستمر ضد الاستعمار، وتحمله كل ما فرضه عليه هذا النضال من تضحيات. وكان آخر عمل فى هذا المجال إلغاءه فى سنة 1951، بالإرادة المنفردة لمصر، لمعاهدة 1936، التى كانت تكرس الاحتلال الإنجليزى لمصر، ودعمه للفدائيين المصريين الذين ذهبوا لمقاتلة الإنجليز على طول قناة السويس.

 

كان النضال من أجل الاستقلال إذن، فى حالة النحاس كما فى حالة عبدالناصر، هو السبب الأساسى لما حققه الاثنان من شعبية، وكان دعم عبدالناصر لحركات الاستقلال فى بقية العالم العربى هو الذى جلب له هذه الشعبية مع جميع الدول العربية، على الرغم مما أبداه عبدالناصر من لا مبالاة إزاء قضية الديمقراطية السياسية.

 

لماذا إذن يبدو وكأننا فى غمار حماسنا للديمقراطية السياسية، منذ قيام ثورة 25 يناير 2011، قد نسينا موضوع الاستقلال؟ نعم كان حرماننا من الحرية السياسية فى عهد حسنى مبارك، وتكرار تزوير الانتخابات، وفرض حكومات مكروهة من الناس، الواحدة بعد الأخرى، من أهم دواعى الشكوى من ذلك العهد والعمل على إسقاطه، ولكن ألم يكن أيضا من الأسباب الأساسية للشكوى تبعيته المطلقة للإرادة الأمريكية، وتخاذله أمام أعمال الإسرائيليين؟ ألم يكن الاستقلال أيضا مطلبا أساسيا من مطالب المعارضين لحكم مبارك، سواء فى مواجهة الولايات المتحدة أو فى مواجهة إسرائيل؟ نعم، لا شك فى ذلك. فلماذا إذن اكتسح موضوع الديمقراطية السياسية كل الموضوعات الأخرى، بما فى ذلك التخلص من التبعية، فلم يعد هناك كلام إلا عن الانتخابات والاستفتاءات، وطريقة تجنب التزوير فيها والتلاعب بنتائجها، وما إذا كان وضع الدستور يأتى قبل أو بعد الانتخابات.. إلخ، وكأن مصر بمجرد قيام ثورة يناير قد أصبحت فجأة دولة حرة مستقلة وذات سيادة؟

 

عندما لا يكون الحديث عن الديمقراطية والانتخابات، يكون حول قضايا داخلية بحتة: كالجدل حول ما إذا كانت الدولة المدنية أفضل أم الدينية... إلخ.

 

كما نلاحظ أنه، منذ سقوط حسنى مبارك، لم يرد تصحيح السياسة الخارجية فى أى تصريح صادر من المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ولا جاء على لسان أى من رؤساء الوزراء الثلاثة الذين تعاقبوا منذ سقوط الرئيس السابق: أحمد شفيق أو عصام شرف أو كمال الجنزورى. نلاحظ أيضا التأخر الملحوظ فى تغيير وزير الخارجية الأسبق (أحمد أبوالغيط) الذى كان يمارس سياسة التبعية بانضباط تام فى ظل النظام السابق، ولم يتم تغييره إلا بعد أن اشتد وطال الهجوم عليه من شباب الثورة والمطالبة باستبعاده. أما وزير الخارجية الحالى، فهو قليل التصريحات وقليل الظهور بوجه عام حتى لا يكاد يتذكر الناس اسمه. بين الوزيرين شاهدنا تلك الظاهرة المدهشة (نبيل العربى) الذى عبر فجأة عن آمالنا فى سياسة خارجية مستقلة، بتصريحاته حول علاقتنا بإيران، وبالفلسطينيين، وبموقف محترم من معاهدتنا مع إسرائيل. (احترام المعاهدة بشروط احترام الإسرائيليين لها). ولكن سرعان ما نقل نبيل العربى من وزارة الخارجية، وكأن الصبر عليه كوزير للخارجية كان مشروطا بتركه لها فى أقرب فرصة ليحتل منصبا آخر يخضع فيه لقيود كثيرة تفرضها حكومات عربية أخرى هجرت منذ وقت بعيد سياسة الاستقلال.

 

قد يقال إننا نمر منذ الثورة «بمرحلة انتقالية»، وفى مثل هذه المرحلة يقتصر العمل على إجراءات تسليم الأمانة من يد إلى يد، فلا نخوض فى مناقشة ما يجب إدخاله من تعديلات على السياسات العامة. هذا الكلام قد يبدو معقولا ولكننى لا أجده مقنعا لعدة أسباب:

 

فأولا هذه المرحلة المسماة بالانتقالية طالت أكثر من اللازم، ولا نستطيع أن نؤجل اتخاذ القرار وفى أمور ضخمة (مثل التبعية والاستقلال) إلى أجل غير مسمى. وقد حدثت بالفعل خلال هذه المرحلة أحداث مهمة تتعلق بالتبعية والاستقلال، واتخذت بشأنها قرارات ليست مرضية على الإطلاق. فعندما حدث الاعتداء الإسرائيلى بقتل خمسة من العسكريين المصريين على الحدود، دون أى مبرر، مع اكتفاء إسرائيل بالتعبير عن أسفها دون حتى الاعتذار، كان هذا اعتداء صارخا على السيادة المصرية لم ترد عليه السلطة الحاكمة فى مصر بما يستحقه. وما القول فى حادث آخر فجرته السلطة الحاكمة المصرية بنفسها، باتهام دولة أجنبية بالإنفاق على جمعيات مدنية مصرية لم تحصل على ترخيص، من أجل تنفيذ مخطط يمس السيادة المصرية، بما فى ذلك تقسيم الدولة المصرية إلى خمسة أقسام؟ لماذا فجر الموضوع الآن، خلال المرحلة الانتقالية، ولم يؤجل إلى ما بعد، خاصة أن هذه الجمعيات كانت تعمل بدون ترخيص لسنوات طويلة قبل الثورة ولم تتعرض لها السلطات المصرية؟ ولكن الاسوأ بالطبع هو أن السلطات المصرية سمحت فجأة بالإفراج عن المتهمين من الأجانب، وتركتهم يسافرون على طائرة

 أمريكية جاءت خصيصا لحملهم. فما هو بالضبط الذى يجوز تأجيله وما لا يجوز خلال المرحلة الانتقالية؟

 

ثانيا: بعد أن تم انتخاب مجلس الشعب الجديد، وبدأت المناقشات، لا يبدو أن موضوع الاستقلال والتبعية أعطى الأهمية التى يستحقها، بل بدا غالبية النواب أكثر انشغالا بموضوعات أخرى، مثل الإجراء الواجب اتخاذه لتأديب أحد النواب لاستخدامه لفظا نابيا، فى حديثه عن رئيس المجلس العسكرى، أو إزاء نائب آخر أجرى عملية تجميل لأنفه، مع ادعائه بأن ما فى وجهه من جروح كان بسبب اعتداء لم يحدث فى الحقيقة. صحيح أن أحد النواب أثار موضوعا قد يتصل من بعيد بمسألة الاستقلال والتبعية، وهو ما إذا كان من الجائز أو من غير الجائز تعليم اللغة الإنجليزية فى المدارس المصرية، ولكن إثارة هذا الموضوع أقرب إلى الهزل منه إلى الجد، بل ومن شأنه الاسترسال فى مناقشة مثل هذه الموضوعات أن تترسخ التبعية فى مصر وأن يضيع ما بقى من استقلال.

 

وثالثا: يلاحظ أيضا أن المرشحين لرئاسة الجمهورية (المحتملين وغير المحتملين) لم يتطرقوا إلا لماما، وهم بصدد شرح برامجهم ومبادئهم لموضوع التبعية والاستقلال. كما يلاحظ أن ثلاثة على الأقل من أكثر هؤلاء المرشحين شهرة، كانت لهم علاقات وثيقة بعهد حسنى مبارك أو عهد أنور السادات (وهما العهدان اللذان قدمت خلالهما تنازلات كبيرة تتعلق بالاستقلال والتبعية)، ومن ثم لا يجب أن نتوقع من أى منهم دفاعا مجيدا فى المستقبل عن استقلال مصر ورفض التبعية، إذا حدث وأصبح أى منهم رئيسا للجمهورية.

 

وقد شاع أيضا أن واحدا من هؤلاء الثلاثة قد حصل على تأييد خفى من المجلس العسكرى قبل إقدامه على ترشيح نفسه للرئاسة. بينما يلاحظ أيضا أن واحدا من أكثر المرشحين الآخرين شعبية، ومن أكثرهم فى رأيى تمسكا بالاستقلال ورفض التبعية، يبدو الآن وكأنه يمثل مشكلة خاصة للممسكين بالسلطة، إلى درجة أن الجماعة التى تحوز الأغلبية فى مجلس الشعب، قيل إنها تمهد بالفصل من عضويتها من يعمل على إنجاح هذا المرشح فى انتخابات الرئاسة، هل لهذا أيضا علاقة يا ترى، بأن هذا المرشح بالذات هو الذى تعرض دون غيره من المرشحين، للاعتداء عليه بالضرب فى الطريق العام؟

 

●●●

 

إن هذا التراجع الملحوظ والمؤسف، لقضية الاستقلال والتبعية، بعد نجاح الثورة فى تنحية الرئيس المخلوع، وشغلنا منذ ذلك الوقت بمشاكل أقل أهمية بكثير، أو بمشاكل مصطنعة يبدو وكأنها خلقت خصيصا لشغل الناس عن القضايا الأساسية، كل هذا ناتج بالطبع عن أن السلطة قد انتقلت من يد الرئيس المخلوع وأصحابه، إلى إيدى أفراد ينتمون إلى نفس النظام الذى أراد الثوار خلعه، ولهم نفس الموقف الذى كان يتخذه الرئيس المخلوع من قضية التبعية والاستقلال.

جلال أمين كاتب ومفكر مصري كبير ، وأستاذ مادة الاقتصاد في الجامعة الأمريكية ، من أشهر مؤلفاته : شخصيات لها تاريخ - ماذا حدث للمصريين؟ - عصر التشهير بالعرب والمسلمين - عولمة القهر : الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر.
التعليقات