توفى منذ أيام قليلة (16 أبريل 2014) أخى حسين أحمد أمين، الكاتب والأديب الموهوب، وهذه بعض ذكرياتى عنه، مما أحب أن أشرك القارئ معى فيه.
كان حسين دائما أقرب إخوتى السبعة إلىَّ، ليس فقط فى السن (فهو الأخ الأكبر منى مباشرة)، ولكن أيضا فى نوع الاهتمامات وعلى الأخص الشغف بالكتابة. ومع ذلك، وعلى الرغم من أنى قضيت معه من الوقت، فى الحديث وتبادل الخطابات، أكثر بكثير مما فعلت مع أى أخ أو أخت أخرى، فإنى مازلت غير قادر على الجزم بأنى أفهمه حق الفهم. وها هو العمر قد انتهى ومازلت لا أعرف سره الحقيقى. لقد أخذ سره معه. ولكنى أعود فأقول لنفسى: ألا ينطبق هذا على معظم (ان لم يكن كل) من نعرفهم من الناس؟ أقصد «من لا نعرفهم من الناس».
•••
من بين الصور الفوتوغرافية الأثيرة لدى (وقد استخدمتها كصورة الغلاف لكتابى «ماذا علمتنى الحياة؟») صورة تعود إلى أوائل الأربعينيات من القرن الماضى، إذ يبدو على فيها أنى كنت بين الخامسة والسادسة من عمرى، وحسين بين السابعة والثامنة. وقد جلست أنا فى الوسط بين ذراعى أبى، وستة من الإخوة يحيطون بأبى من الجانبين، كنا فى نزهة فى حدائق القناطر الخيرية، وقد جلسنا على بساط فرش على النجيل أمام مصور ممن كانوا يطوفون برواد الحديقة عارضين خدماتهم. كانت الجدية ترتسم على وجوهنا جميعا، أما نظرة حسين فهى التى تسترعى الانتباه ويصعب تفسيرها. لماذا كل هذا التقطيب والغضب؟ صبى لم يتجاوز الثامنة من عمره، ونحن فى نزهة، وهو جالس بين أبيه وإخوته، فما سر كل هذا الغضب؟
•••
ظل حسين طوال حياته قليل الثقة بالأطباء. وأذكر أنه عندما رأى واحدا بعد الآخر من اخوته يصاب بضعف البصر، ويبدأ فى استخدام نظارة، قال انه سيتبع رأى ألدوس هكسلى (الكاتب الإنجليزى) فى رفض استخدام نظارة لاعتقاده ان باستطاعته تقوية نظره بالمران، وان استخدام نظارة عند ضعف البصر يزيد البصر ضعفا. لا أذكر أنى رأيت حسين بنظارة قط، ولكنى أعرف أيضا انه كان ينتمى إلى ذلك الفريق من الإخوة الذى ورث قوة النظر من الأم، بينما ورث الفريق الآخر ضعف النظر من أبى.
كان يعجبنى تشبيه حسين لجسم الإنسان، وهو بصدد التعبير عن عدائه للأطباء بقوله ان تعريض الجسم لأيدى الأطباء، يعبثون به كما يشاءون، مثل تعريض موتور السيارة للعبث بأيدى الميكانيكيين بورش السيارات. كان يقول ان الجسم الذى لم يتعرض لعبث الأطباء قط مثل السيارة التى لم تذهب قط لورشة إصلاح. ألا ترى أن بائعى السيارات المستعملة عندما يريدون الثناء على سيارة مستعملة، يصفونها بأنها تباع «بحالتها»، أى كما تسلمها مشتريها دون أن تتعرض لأى إصلاح.
أذكر أنه عندما زرته فى مرض ألّم بساقه بعد أن تجاوز السبعين من عمره، وأحاطت به زوجته وإحدى بناته وخادمة مخلصة، وألحوا جميعا عليه بالذهاب إلى المستشفى لإجراء بعض الفحوصات، رفض رفضا باتا إلى درجة الغضب. نجح حسين فى النجاة بنفسه فى تلك المرة، ولكنى فوجئت بعد شهور قليلة بأنه ذهب بالفعل إلى المستشفى مستسلما، وانه قبل أن تجرى عملية جراحية فى ساقه. فهمت من زوجته أن آلام ساقه زادت عن الحد مما لم يترك له وسيلة للمقاومة. ولكنى لابد أن أقول أيضا إنى كنت قد لاحظت فى زياراتى له طوال العام أو العامين السابقين، وحتى قبل إصابته بهذا المرض، أنه كان قد أصبح قليل الكلام، وضعف حماسه المعهود فى إثارة موضوع جديد يستهويه. ولا أدرى حتى الآن ما إذا كان الضعف الذى أصاب إقباله على الحديث له علاقة بما حدث له بعد العملية.
•••
ذلك أن حسين خرج من العملية شخصا مختلفا تماما. وكان الأمر محزنا للغاية. ظننا فى البداية أن تأثير المخدر الذى استخدم فى العملية الجراحية مازال مستمرا ولكنه سيزول مع الوقت. هذا ما قاله الطبيب الذى أجرى العملية. ولكن لم يحدث تحسن، بل تدهور الأمر ثم ثبت عند الحالة التى ظل عليها طوال الست سنوات الأخيرة من حياته.
كيف يمكن ان أصف هذه الحالة؟ سكوت شبه مطلق، لا يقطعه إلا طلبه ممن بجواره طلبا يتعلق بحاجة جسدية: كالأكل أو الشرب أو الذهاب إلى الحمام. تذهب لزيارته فيقابلك مقابلة مشجعة: وجه بشوش وصوت قوى، ويرد على تحيتك الرد الملائم بما فى ذلك مخاطبتك باسمك. انه إذن يعرف من أنت، ولا يخطئ فيخاطب أحدا من أفراد الأسرة بغير اسمه، ولكن هذا هو تقريبا كل شىء. لا يعرف شيئا من أخبارك (مهما كانت مهمة ومعروفة للجميع)، ولا يهمه أن يعرف. لا يدرك أن ثورة قامت فى مصر، ولا يبدو عليه أى اهتمام بما إذا كانت قد قامت أو لم تقم. فإذا داعبته بالتعبير عن استغرابك لذلك، ابتسم وظهر على وجهه بعض الدهشة، ولكنك لا تعرف ما موضوع دهشته بالضبط: هل هو عدم درايته بحادث مهم، أم استغرابك من عدم درايته، أم شىء آخر تماما؟ اكتشفت بعد قليل أن ذاكرته فيما يتعلق بالأحداث القديمة أفضل بكثير من تذكره للأحداث القريبة، وان من الممكن ان أطلب منه أن يكمل بيتا أو جزءا من قصيدة للمتنبى، فيكمله مع بعض التردد والبطء، أو أن يكمل حكاية من حكايات العائلة القديمة، فيفعل ذلك أيضا ولكن دون أن يبدو عليه أى انفعال من أى نوع بتذكره أو تذكيره بهذه الحكاية. تسأله سؤالا بسيطا جدا عن إحدى بناته، أو عما فعله فى الصباح، أو عما تناوله فى الغذاء، فينظر إلى زوجته طالبا منها المعونة، بل طالبا منها أن تقوم هى بالإجابة.
كان خلال السنوات السابقة على هذا المرض، كثيرا ما يطلبنى فى التليفون فنتحدث حديثا طويلا لكثرة ما بيننا من اهتمامات مشتركة. يعرف أخبارا جديدة يهمنى معرفتها، وأعرف أنا أيضا ما يهمه معرفته، فنتبادل الأخبار والتعليقات، فإذا بهذا الأمر ينتهى تماما. لا يطلبنى فى التليفون قط، وانما أطلبه أنا من حين لآخر فلا أظفر منه بشىء، مهما حاولت إثارة موضوع قديم أو حديث. ومن ثم تنتهى المكالمة دون حماس من جانبه لبدئها أو انهائها، ومقترنة بشعور شديد بالحزن من جانبى.
•••
كان الأمر يبدو لى مأساويا للغاية. إذ ما الذى بقى من حسين لى أو لغيرى؟ وكيف تمضى الأيام منذ أن بدأ هذا المرض، وكيف نستمر فى التعامل معه وكأنه لم يحدث شىء خطير، ما دام لا يزال يأكل ويشرب وينام ويتحرك؟ هل الوفاة فقط هى الحادث المأساوى؟ فما هو بالضبط الذى يميز الشخص الحى عن الميت؟
كان يدهشنى جدا تعليق بعض أفراد أسرتى عن حالته. أحدهم يقول: «انه يبدو أحسن حالا اليوم»، وأخرى تقول «المهم أنه لا يشعر بالألم». ويقول صديق مشترك: «انه على الأقل لا يتدهور». ويقول آخر «أهم شىء أنه مازال يعرف الأشخاص المحيطين به ولا يخطئ فينادى أحدهم باسم شخص آخر». قد يكون كل هذا صحيحا، ولكن أين هو حسين بالضبط؟ وما هو الشىء الذى لم يكن قد حدث بعد، ولكنه إذا حدث كان من الممكن أن أقول إنى فقدت أخا آخر من إخوتى؟