تشهد اليمن فى الآونة الأخيرة تطورات يمكن وصفها فى الحد الأدنى بالمهمة وفى الحد الأقصى بالخطيرة، كونها تؤثر بالتأكيد على الاستقرار السياسى فى اليمن، وقد يصل تأثيرها إلى تماسك وحدته فى السيناريو الأسوأ لتلك التطورات. وهو أمر يقلق المهتمين بتطور النظام العربى عامة واتجاهه نحو التكامل خاصة، فالوحدة اليمنية صارت أشبه «ببيضة الديك» فى سعى العرب لتحقيق وحدتهم، إذ لا يملك النظام العربى منذ تفككت الوحدة المصرية ــ السورية فى 1961 سوى نموذجين اثنين لوحدة حقيقية؛ أولهما دولة الإمارات فى مطلع سبعينيات القرن الماضى، وثانيهما الوحدة اليمنية فى مطلع التسعينيات، ومما يعطى للأخيرة دلالة أهم أنها تمت بين دولتين كانت لكل منهما شخصيتها الدولية وسيادتها وعضويتها فى المنظمات الدولية، وأنها أخذت بالصيغة الاندماجية كما فى الحالة المصرية ــ السورية وعلى العكس مما تنطوى عليه حالة الإمارات، حيث تحققت الوحدة بين كيانات دون الدولة بمناسبة تخلص هذه الكيانات من الحماية البريطانية، ولم تأخذ بالصيغة الاندماجية، إذ هى أقرب ما تكون إلى الصيغة الفيدرالية.
تملك الوحدة اليمنية أكثر من غيرها عوامل البقاء، كونها تستند إلى قاعدة اجتماعية من شعب واحد ذى تاريخ مشترك، وتقاليد وعادات متشابهة لم تتأثر بعمق بعقدين من الحكم «الماركسى» فى الجنوب، ومع ذلك فقد لعبت العوامل الخارجية فى شقها العالمى دورا لافتا فى مسار هذه الوحدة نشأة وبقاء، إذ كان للتطورات الجذرية التى شهدها الاتحاد السوفيتى بعد صعود جورباتشوف إلى سدة السلطة فى منتصف ثمانينات القرن الماضى أثرها على تحفيز الشطر الجنوبى لإنجاز الوحدة طالما أن نظام حكمه كان يعتمد فى بقائه على الدعم السوفيتى الذى لم يعد جورباتشوف راغبا فى تقديمه، وكانت الولايات المتحدة سعيدة بأن تمتد ظاهرة اختفاء النظم الاشتراكية خارج أوروبا حتى ولو كان الثمن هو وحدة يمنية لن تؤثر بطبيعة الحال فى التوازنات العالمية، وإن كانت لها تأثيراتها الإقليمية دون شك فى منطقة حساسة للمصالح الأمريكية، وقد عزز من هذا التوجه الأمريكى أن محصلة العملية الوحدوية اليمنية كانت أميل بكثير إلى الاعتدال منها إلى الراديكالية. على النقيض من ذلك كان تأثير العوامل الإقليمية المرتبطة بالمحيط الجغرافى للوحدة اليمنية، فلم يكن معظم دول مجلس التعاون الخليجى سعيدا بما يمكن أن تسفر عنه الوحدة الوليدة من تغير فى موازين القوى فى الجزيرة العربية، ولو على المدى المتوسط أو الطويل.
على صعيد آخر تميزت الوحدة اليمنية بأنها كانت مدخلا إلى التعددية السياسية، فقد أقر طرفاها الإبقاء على التنظيم السياسى لكل منهما (المؤتمر الشعبى العام فى الشمال والحزب الاشتراكى فى الجنوب) والأخذ بمبدأ التعددية السياسية بصفة عامة، وذلك على العكس من الوحدة المصرية ــ السورية التى كان شرط الرئيس عبدالناصر لإتمامها هو حل الأحزاب السياسية فى سوريا أسوة بمصر. وعلى الرغم مما نسب لغياب التعددية من آثار سلبية على الوحدة المصرية ــ السورية فإن إقرارها فى الحالة اليمنية لم يكن ضمانا كافيا لحمايتها من التعرض لأخطار شتى بلغت حد احتمال الانفصال فى 1994، ذلك أن الوحدة اليمنية قد بنيت على توازن بين طرفيها على الرغم من تباين وزنهما السكانى لصالح الشمال على نحو حاسم، فكانت مفاتيح الحكم باستثناء منصب الرئاسة موزعة على نحو بالغ التوازن بين شريكى الوحدة، ولذلك بدأت الوحدة تتعرض لتقلصات داخلية سرعان ما بلغت حد العنف المسلح عندما أخلت أول انتخابات برلمانية تعددية أجريت فى دولة الوحدة بهذا التوازن الدقيق، وبصفة خاصة مع بروز حزب الإصلاح اليمنى ذى التوجهات الإسلامية الذى حصل فى الانتخابات على عدد من المقاعد يكفى للاستغناء عن الحزب الاشتراكى فى أى ائتلاف حكومى قادم.
أثارت دائما إعادة تكييف وضع النخب الحاكمة فى الأطراف المشاركة فى عملية تكاملية ما مشكلات اعترضت مسار هذه العملية، وقد ساعد على فداحة هذه المشكلات فى السياق العربى غياب تقاليد ديمقراطية حقيقية، ونذكر أن حزب البعث وهو شريك رئيسى فى الوحدة المصرية ــ السورية انسلخ منها بعد أقل من سنتين على قيامها، ولم يعترض على تفكيكها، بسبب عدم الرضا عن دوره فى الوحدة، وبالنسبة للحزب الاشتراكى اليمنى الذى حكم الجنوب قبل الوحدة بدأت التوترات تحدث بينه وبين شريكه الشمالى على خلفية تغير وضع الحزب فى المعادلة السياسية اليمنية فى أعقاب أول انتخابات برلمانية تعددية أجريت فى اليمن الموحد فى1993 على نحو ما سبقت الإشارة، وأخفقت كل محاولات إيجاد حل لتلك التوترات التى أخذت فى التفاقم حتى بلغت حد الصدام المسلح فى 1994 بين جيشى الجنوب والشمال اللذين لم يكن توحيدهما قد تم بعد، واستطاعت سلطة الوحدة أن تحافظ ــ فى خبرة مغايرة لخبرة الوحدة المصرية ــ السورية ــ على الوحدة بالقوة مستفيدة فى هذا بالعوامل العالمية المواتية، وهكذا تمثلت معادلة الحفاظ على الوحدة فى التضافر بين الرغبة الشعبية فى إبقائها مع مناخ عالمى يشجع بقاء الوحدة فى مواجهة التأثيرات الإقليمية ــ والخليجية تحديدا ــ غير المواتية، لكن الأزمة خلفت تداعيات سلبية على مسار الوحدة دون شك.
فى البدء تمثلت هذه التداعيات فيما أصاب النخبة الحاكمة السابقة فى الجنوب من تدهور فى أوضاعها، وامتدت هذه التداعيات لاحقا لتشمل صفوفا ثانية وثالثة منها فقدت مواقعها بعد حرب الانفصال، وبصفة خاصة فى القوات المسلحة، ولذلك مثلت المطالبة بإنصاف هؤلاء ملمحا دائما فى الأزمات المتكررة التى تعرضت لها الوحدة فى شطرها الجنوبى، ثم امتدت الأزمة فى مرحلة لاحقة لتشمل مطالب حياتية يومية تبنتها قطاعات من اليمنيين فى الجنوب، ثم اكتست طابعا سياسيا بتحول تلك المطالب إلى رأى فى أسلوب إدارة الوحدة وتوزيع مكاسبها بالعدل بين شطريها، ثم وصلت إلى أقصى درجات الخطورة برفع شعارات انفصالية فى غمار الأزمة واستهداف بعض أعمال الشغب فى الجنوب ممتلكات مواطنين شماليين.
من السهولة بمكان من المنظور السياسى أن يقال إن اليمنيين فى الجنوب يطالبون بالانفصال أو العكس أى أن ذوى التوجهات الانفصالية قلة منحرفة عن التوجه العام للشعب اليمنى فى الشمال والجنوب، غير أنه من الناحية العلمية الدقيقة يصعب الآن الحكم على مدى انتشار دعوة الانفصال فى الجنوب، وقد لا يكون لهذا أهميته الكبرى الآن طالما أكدت لنا مؤشرات لا شك فى صدقها خطورة الوضع الراهن، ولعل أهم هذه المؤشرات هو ما صرح به الرئيس اليمنى نفسه من أن أى محاولة قادمة للانفصال لن تكون وفق خطوط شمالية/جنوبية فحسب، وإنما سوف تكون بين «كانتونات» و«نتوءات»، ولعله بذلك كان يشير إلى واقع الجنوب قبل الاستقلال والذى كان يضم ما يقارب العشرين كيانا صغيرا التى وحدتها الجبهة القومية فى غمار حركة التحرر الوطنى فى الجنوب.
وفى إدارة هذه الأزمة الخطيرة لا شك أنه من حسن حظ دولة الوحدة اليمنية أن العوامل الخارجية فيها مواتية بدرجة أكبر مما كانت عليه فى أزمة الانفصال1994 إذ لسنا فقط بصدد رئيس كـ«بيل كلينتون» الذى كان يشغل منصب الرئيس الأمريكى حينذاك، وإنما نحن فى بداية عهد رئيس جديد يحاول اتباع نهج مغاير لنهج سلفه سعيا إلى استقرار عالمى وإقليمى من خلال التوافق والشراكة والحوار، وهو ما يجعل الولايات المتحدة بالتأكيد غير راغبة فى هذا الوقت تحديدا فى بروز بؤرة خطر جديدة فى منطقة ذات حساسية فائقة للمصالح الأمريكية، ومن ناحية أخرى يمكن القول بأن الجوار الخليجى المباشر لليمن قد غير موقفه السلبى بصفة عامة من الوحدة اليمنية بعد أن تغلبت اعتبارات الخوف من «البلقنة» فى أعقاب احتلال العراق على اعتبارات القلق من ميزان قوى جديد يمكن للوحدة اليمنية أن توجده فى الجزيرة العربية.
ولا يعنى ما سبق أن الوحدة اليمنية بمنأى تام عن التأثير السلبى للعوامل الخارجية، فقد أدت الأزمة الاقتصادية العالمية على سبيل المثال إلى تراجع قياسى فى العائدات النفطية لليمن بلغت نسبته 74.5% فى الربع الأول من العام الحالى، وهو تطور من شأنه أن يقيد خيار تحقيق انطلاقة تنموية فى الجنوب كمدخل لحل الأزمة، كذلك لم تسلم اليمن من انتهازية تنظيم القاعدة الذى أعلن دعمه لليمنيين الجنوبيين المناهضين للنظام اليمنى فى محاولة لترويج ما أسماه بالحل الإسلامى. غير أن المؤكد أن التحدى فى اليمن يبقى بالأساس تحديا داخليا يتعلق بأسلوب إدارة دولة الوحدة، ومشاركة جميع اليمنيين فيها على قدم المساواة، وتوزيع منافعها استنادا إلى العدالة، ولابد من خطوات حقيقية فى هذا الاتجاه لأن حسم المعضلات التى تواجه دولة الوحدة اليمنية فى الوقت الراهن لم يعد يقبل مزيدا من الانتظار.