ها قد أسدل الستار على رواية طولها ستة عشر شهرا. بدأت بداية مفرحة جدا فى 25 يناير، وانتهت نهاية مؤسفة ومحزنة فى منتصف يونيو من العام التالى.
تطلع المصريون فى بدايتها إلى عهد جديد من الحرية والكرامة، ورأوا أنفسهم فى نهايتها وقد قيدت أيديهم من جديد وتصدر لهم تحذيرات من أن أى محاولة لتكرار ما فعلوه فى 25 يناير ستضرب بلا رحمة. وعاد الكتاب والمذيعون الذين اعتادوا خدمة النظام القائم أيا كانت صورته، يحاولون اكتشاف شخصية الرئيس الجديد حتى يبادروا بإعلان ولائهم له، حتى قبل أن يتسلم الحكم.
ومع كل ما اعتاد عليه المصريون من تتابع عصور القهر، واحدا بعد الاخر، مهما تغير اسم الحاكم، ونوع المستعمر، فإن فى هذه الرواية الأخيرة شىء جديد تماما لم يألفه المصريون، وهذا هو سر انخداعهم لعدة شهور، وظنهم، بمنتهى حسن النية، أن عهد القهر قد انتهى بالفعل، فإذا به لم يختف (ولد للحظة واحدة طوال الستة عشرا شهرا الماضية). لقد استمر التمثيل طوال هذه الفترة كلها، وبدا وكأن كل ممثل يمارس حريته الكاملة ويتنافس مع زملائه منافسة شريفة يحكمها القانون، فإذا بنا نتبين فى النهاية (أو قبل النهاية بقليل) أن الجميع مقهورون، وخاضعون لقوة خفية لا تظهر على المسرح إلا لمامًا، وإذا ظهرت فإنها لا تظهر بوجهها الحقيقى.
كان القهر الذى يخضع له المصريون فى كافة العصور (باستثناءات قليلة للغاية) يتم فى ظل دكتاتورية سافرة لا يحاول فيها الدكتاتور خداع الناس بالرغم بأنه جاء إلى الحكم باختيارهم هم. نعم، ما أكثر الانتخابات والاستفتاءات والبرلمانات، وما أكثر ما وصف الحكم نفسه بالديمقراطية خلال المائة عام الماضية، ولكن المصريين كانوا يعرفون دائما من هو صاحب الأمر والنهى الحقيقى: الإنجليز فيما بين 1919 و1952، وجمال عبدالناصر ثم أنور السادات فى الثلاثين عاما التالية.
استمر الأمر كذلك فى الثلاثين عاما التى حكم فيها حسنى مبارك، ولكن كان هناك تجديد لا يستهان به فى «ديمقراطية» حسنى مبارك، وهو استخدام نظامه حجة «أهون الشرين»، لإقناع من لم يكن مقتنعا بحكمه، كثُر فى عهد مبارك استخدام تعبير «الإرهاب والإرهابيين»، وادعى النظام أن سقوطه يعنى خضوع مصر لنظام أسوأ منه، يسيطر عليه الإرهابيون أو التيار الدينى المتطرف.
وتكرر استخدام هذه الحجة حتى اقتنعت شرائح مهمة من المجتمع «من بينها أعداد كبيرة من الأقباط، ومن النساء العاملات، ومن العلمانيين، ومن الأدباء والفنانين» بأن نظام مبارك قد يكون بالفعل «أهون الشرين». وقد حرص نظام مبارك لتأكيد هذه الفكرة على استبعاد أى طيف من أطياف الفكر الدينى المستنير، الذى يرفض الاستبداد والظلم الاجتماعى، ويرفض فى نفس الوقت، التزمت وضيق الأفق فى تفسير الدين. مُنع هؤلاء من الاقتراب من مبنى التليفزيون وسائر وسائل الإعلام، حتى يستقر فى وعى الناس ترادف الدين والإرهاب، وأن الاختيار الوحيد المطروح هو بين نظام كنظام حسنى مبارك، ونظام التيار السلفى الظلامى.
كانت النتيجة أن حصلنا، لمدة ثلاثين عاما، هى مدة حكم مبارك، على نظام لا يقل فى دكتاتوريته عن دكتاتورية أنور السادات أو جمال عبدالناصر، بل كان أكثر قهرا للناس وأشد ظلما، ولكنه يعتمد لأول مرة على «تخويف الناس من البديل»، وكأن الفارق الحقيقى بين الدكتاتورية والديمقراطية فى صورتها الجديدة، هو الفرق بين تخويف الناس من الدكتاتور نفسه، وبين تخويف الناس من الوقوع فيما هو أفظع من الدكتاتور، أى الفرق بين الخوف من الاعتقال والسجن والتعذيب، التى يمارسها الدكتاتور نفسه، وبين الخوف من مختلف أنواع التعذيب التى سوف يمارسها آخرون.
ـــ
دعنا نعترف بصراحة بأنه لم يخطر ببالنا قط أن نفس أسلوب القهر الذى اتبعه نظام مبارك (بالتخويف مما هو أفظع) سوف يتبع أيضا حتى بعد قيام ثورة بديعة فى 25 يناير 2011. فخلال الشهر التالى لسقوط حسنى مبارك، ما الذى كان يمكن أن يخيف أى واحد منا؟ ما الذى يخيف الشباب وقد أدى لهم رجال القوات المسلحة التحية؟ ما الذى يخيف الأقباط وقد رأوا المشايخ يعانقونهم فى الميدان، وصبت سيدة قبطية الماء على يدى شيخ لمساعدته فى الوضوء؟ ما الذى يخيف الأغنياء (ما لم يكونوا لصوصا) وقد رأوا الفقراء يعاملونهم بمنتهى الأدب فى ميدان التحرير وثبت أن الثورة لم تكن «ثورة جياع»؟ ما الذى يقلق الفقراء وقد سمعوا لتوهم عن أموال طائلة، تعد ببلايين الدورلات، تم اكتشافها وحصرها، وهى التى كانت أسرة الرئيس المخلوع قد جمعتها وهربتها، ولم يبق إلا استعادتها بل ربما جرى توزيعها على الفقراء، كل حسب حاجته؟ ما الذى يمكن أن يخيف النساء وقد رأت كل امرأة وفتاة مصرية آلافا من النساء الأخريات، يذهبن مثلها إلى الميادين ويعاملهم الرجال والفتيان بمنتهى الاحترام، ويقومون بحمايتهم، دون أن تسجل حادثة تحرش واحدة مما كان يحدث فى الأعياد؟ هل من آثار ثورة 25 يناير أيضا انتهاء ظاهرة التحرش؟ ثم جاء اشتراك الأولاد والبنات فى عمل جميل مشترك هو طلاء الأرصفة فى الشوارع، ولم يكن هذا إلا عملا رمزيا صغيرا لما سوف تسفر عنه الثورة من تعاون بين الجميع، ومجىء عهد جديد تساهم فيه المرأة بمثل ما يساهم به الرجل. أما الأدباء والفنانون فقد عمهم الفرح أيضا، إذ ما الذى يمكن أن يفجر المواهب بأكثر مما تفجرها الثورات؟ هل رأيت الجداريات البديعة التى رسمها الفنانون فى الشوارع لتمجيد أعمال الثوار؟ وهل سمعت الأغانى الجيدة التى جرى تأليفها والشباب جالس على أرض الميدان؟ وهل رأيت الكتب الجديدة التى صدرت لمصورين جمعوا صور الثورة، أو لأدباء استلهموا الثورة فى تأليف الروايات، أو لباحثين اجتماعيين أخذوا يحللون سلوك الناس فى الميدان ويجمعون ما رفعوه من شعارات؟
كيف يمكن أنه بعد أقل من سنة ونصف السنة من خلع الرئيس، يختفى كل هذا الفرح، ويحل محله خوف مستطير لدى كل طائفة من هذه الطوائف؟ الأقباط؟ لم يمض أكثر من شهر حتى بدأ مسلسل حرق الكنائس ومهاجمتها وقطع أذن قبطى، فلما قام الأقباط بمظاهرة احتجاج ووجهوا بإطلاق الرصاص وسقط منهم شهداء. الفقراء؟ لقد تكررت على أسماعهم عبارات التخويف من تدهور اقتصادى، وتناقص سريع فى الاحتياطى النقدى، وتقديرات مخيفة للمدد التى سوف ينتهى بانتهائها مخزون المواد التموينية. والتدهور الأمنى أضر ضررا بليغا بالسياحة، فتشاءم بشدة العاملون بهذا القطاع، وهم يرون زملاءهم يستغنى عنهم بسبب إلغاء الرحلات السياحية.
والمرأة، المحجبة وغير المحجبة، أزعجها بشدة منظر اللحى السوداء والبيضاء الطويلة التى بدأت تظهر فى التليفزيون، وخشيت غير المنتقبات منهن أن يفرض عليهن النقاب، أو أن يمنعن من الخروج للعمل. ثم سمعن عن حملات لإجراء عمليات الختان فى الصعيد لا يتصدى لها رجال الأمن، وسمعن مناقشات فى مجلس الشعب عن اقتراحات تتضمن إلغاء دعاوى الخلع، وتخفيض سن الزواج، وذكر البعض فكرة تكوين جماعة «للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» تسير فى الشوارع لمنع السفور وربما أيضا لمنع النساء من قيادة السيارات. أما الأدباء والفنانون فقد أصابهم الرعب من حكم صدر ضد عادل إمام بتهمة «ازدراء الأديان» فهل هذه مجرد بداية لأشياء كثيرة مماثلة؟
كيف حدث كل هذا فى أقل من سنة ونصف؟ لقد نسى كثيرون أهداف الثورة الأصلية: الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، ونسوا تعقب الفساد والمفسدين، وتخلوا عن أى أمل من استعادة الأموال المسروقة والمهربة، ناهيك عن الأمل فى التخلص من التبعية للأمريكيين والإسرائيليين. إذ أين هذا كله من القضايا الأهم، التى تتعلق بالوجود نفسه: وجود القبطى كمواطن على قدم المساواة مع المسلم، ووجود المرأة ككائن حى وليست كمجرد وسيلة لجلب المتعة للرجل، ووجود مصدر لكسب الرزق ليطعم منه المرء نفسه ويطعم أولاده، ويضمن استمرار حياتهم والقدرة على علاجهم وتعليمهم، فضلا عن حق الأديب أو الفنان فى التعبير عن نفسه وهو ما يعتبره الأديب أو الفنان حقا لا يقل عن حق الحياة نفسه.
هل يمكن أن يكون من قد اصطنع كل هذا التخويف اصطناعا لتحقيق غرض واحد فقط، هو مجىء الفريق أحمد شفيق رئيسا للجمهورية؟ فإذا كان الأمر كذلك، فهل يحق لأحد، أيا كان، أن يتكلم عن وجود «ديمقراطية»، والزعم بأن الذى سيحكم مصر بعد الآن، تدعمه الأصوات التى تضمنتها صناديق الانتخاب؟
(كتب هذا المقال وأرسل فى يوم الاثنين 18/6/2012)