لم أشاهد فى حياتى قط مثل هذا العدد من المثقفين والفنانين المصريين، مجتمعين فى مكان واحد، رأيت من بينهم روائيين كبارا، وشعراء ورسامين، وموسيقيين وممثلين ومخرجين، كما رأيت مؤرخين ومؤرخات، وعلماء اجتماع وسياسة واقتصاد، ونقاد أدب وأساتذة للفلسفة، وصحفيين وصحفيات...إلخ. امتلأت بهم قاعة فسيحة من قاعات المجلس الأعلى للثقافة فى الأسبوع الماضي، ففتحت لهم قاعة أخرى يتابعون فيها على شاشة كبيرة ما يجرى فى القاعة الأولى ولكنى رأيت وسمعت منهم ما يفصح عن حزن عميق وغضب وخوف مما يمكن أن يأتى به المستقبل.
كان السبب المباشر تعيين رجل غريب وزيرا للثقافة، شرع، بمجرد تعيينه، فى عزل وإنهاء انتدابات مثقف وفنان بعد آخر من مناصبهم، وتوعد الباقين بالتنكيل وعظائم الأمور، مما لم يطقه بعض المسئولين عن هيئات ثقافية فاستقالوا من مناصبهم، فإذا بالوزير يصف المفصولين والغاضبين والمستقيلين بأفظع الصفات، ولم تحرك الدولة ساكنا، وكأن ما ينطق به الوزير يعبر تماما عن اتجاه النظام الحاكم فى مصر.
وتأكد هذا منذ أيام قليلة عندما وقف شيخ سلفى فى الصالة المغطاة، فى اجتماع كبير فى استاد القاهرة، فى حضرة رئيس الجمهورية، فدعا الله على المعارضين والغاضبين على سياسة الحكومة، ووصفهم بالكافرين والمنافقين، ومن ثم دعا الله، دون اعتراض من رئيس الجمهورية، ان يرد الله كيدهم ويدمرهم تدميرا. الدولة إذن تدعو الله بأن يصبَّ لعنته على المثقفين والفنانين المصريين الذين لا يوافقون على موقف الدولة من الأدب والسينما والغناء والباليه.
●●●
كان لابد أن يعيد هذا إلى ذهنى ذكرى فترة من أكثر الفترات فى تاريخ الولايات المتحدة إظلاما وبؤسا، انتشر فيها الرعب والاكتئاب فى نفوس المثقفين والعلماء والفنانين الأمريكيين، ولحق العار بسببها سمعة الولايات المتحدة فى العالم كله، ومازالت حتى الآن كلما ذكرها أحد تثير الخجل فى نفوس الأمريكيين.
لم تستمر هذه الفترة أكثر من خمس سنوات، من بدايته إلى منتصف الخمسينيات من القرن الماضى، بدأت فجأة مع بداية الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى، وانتهت عندما تصدى لها مثقفون أمريكيون رفضوا أن يكون هذا مصير دولة كانت هى التى ألهمت العالم احترام الحريات وحقوق الإنسان.
عرفت هذه الفترة بالمكارثية، نسبة إلى رجل كريه جدا اسمه جوزيف مكارثى. بدأ حياته العملية والعلمية بداية فاشلة، فرأى أن يعمل بالسياسة، وراح يرشح نفسه فى انتخابات المجالس المحلية حتى وصل إلى الكونجرس الأمريكى، ولكنه كان دائما يعتمد فى الوصول إلى مآربه، على اتهام منافسيه بالباطل، ولا يتورع عن تشويه سمعتهم دون دليل (حتى أقدم أحدهم على الانتحار).
ووجد فرصته فى مطلع الخمسينيات، مع انتشار الخوف بين الأمريكيين من الشيوعية، وما حققته من نجاح فى بداية الحرب الكورية، وفى الحرب الأهلية فى اليونان، ثم نجاح ثورة الصين، ونجاح الاتحاد السوفييتى فى إجراء أول تجربة نووية، فحصل مكارثى على دعم خفى من رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالى (FBI) وإذا به ينطلق لتوجيه التهم وتشويه سمعة المثقفين بالباطل، وعلى أساس شبهات موهومة مختلفة، حتى بعث الرعب فى أعضاء الكونجرس الأمريكى أنفسهم، والمشتغلين بالإعلام، خوفا من أن ينقضَّ عليهم كما انقض على غيرهم.
استخدم مكارثى فى حملته المشئومة توصيفا مذهلا للجريمة التى يتهم بها المثقفين (تقابل تهمة الفسق والكفر لدينا) وهى تهمة «معاداة أمريكا» أو القيام «بنشاط غير أمريكى» (unamerican)، وهى تشبه أيضا ما كانت تستخدمه الدول الشيوعية والفاشية فى تشويه سمعة معارضيها وهو وصف «عدو الشعب».
لم يكن من السهل بالطبع إثبات تهمة «المعاداة لأمريكا» على أى شخص، ومع هذا فقد راح ضحية هذا الاتهام عدد يقدر بنحو 12 ألف شخص أمريكى (بالإضافة إلى إثارة الرعب فى الباقين).
من بين هؤلاء جرى اعتقال مئات من المثقفين والسياسيين، وفقد الباقون وظائفهم، ووضع أكثر من 300 ممثل ومخرج ومؤلف سينمائى على القائمة السوداء، فحرموا من فرصة العمل، ولجأ بعض من استطاع منهم السفر إلى ترك البلاد إلى الأبد. كان من بين ضحايا المكارثية أسماء مشهورة ومرموقة مثل ألمر برنشتاين، المؤلف الموسيقى، وبرتولت بريخت، المؤلف المسرحى، وشارلى شابلن، الممثل والمخرج، وألبرت أينشتاين، عالم الطبيعة، وهوارد فاست الروائى...الخ.
فى سنة 1957 تنفس المثقفون الأمريكيون الصعداء عندما سمعوا بوفاة السناتور الأمريكى جوزيف مكارثى، بمرض لم يتمكن الأطباء من إنقاذه منه بسبب شدة إدمانه للخمر، وتوفى وهو لم يتجاوز 49 عاما.
●●●
أوحت هذه الحقبة السوداء لروائى أمريكى هو راى برادبرى (Ray Bradbury)، بفكرة رواية بديعة، نشرت لأول مرة فى 1953، ثم أنتجت فى فيلم ذائع الصيت فى 1966 وهما رواية وفيلم (فهرنهايت 451)، والمقصود بالاسم درجة الحرارة اللازمة لحرق الكتب.
تصف الرواية الحياة فى دولة استقر رأيها على أن الكتب مفسدة للأخلاق، ومضرة بالعقل، وهى على كل حال «صعبة الفهم» على معظم الناس، فقررت ان تقوم بمهاجمة أى منزل يبلغها أنه عثر فيه على كتاب، وتقوم بحرق كل ما فى البيت من متاع منعا لتسرب عدوى الكتب إلى البيوت المجاورة.
ما زلت أذكر المنظر الأخير من هذا الفيلم. لقد هرب من الدولة مثقفوها، وتجمعوا فى غابة حيث تعاهدوا على أن يحفظ كل منهم عن ظهر قلب كتابا كاملا من الكتب التى صنعت ثقافة البشرية فى عصورها المختلفة: هذا يحفظ كتابا لأفلاطون أو أرسطو، وذاك يحفظ مسرحية لشكسبير، وذلك شعرا لطاغور أو رواية لتولستوى...إلخ.
فإذا بهم يسيرون، كلٌ على انفراد، يستعيد فى ذهنه سطور هذا الكتاب أو ذاك، خوفا من أن ينسى بعض فقراته، وأملا منهم فى أن يتمكنوا من أن يسلموا الأمانة لجيل جديد يعيش فى دولة لا تحرق الكتب ولا تسب المثقفين، ولا تستجلب لعنة الله عليهم.