أهلا بالعيد - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 10:57 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أهلا بالعيد

نشر فى : الخميس 22 يونيو 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : الخميس 22 يونيو 2017 - 9:35 م
كل عام ومصر والمصريين بخير، يُنشر هذا المقال قبل استطلاع هلال شهر شوال لكن العيد صار على الأبواب بعد أن انفرطت أيام الشهر الكريم سريعا كما تنفرط أيام العمر وسنينه. كثيرون منا عندما يستحضرون ذكرى العيد تأتى على بالهم لمة العائلة والجيران لصناعة الكعك البيتى والبسكويت، ولم تشذ أسرتى التى تنتمى للطبقة الوسطى عن هذا التقليد فى شىء. كنا نستأجر عددا من الصاجات من فرن «الإخلاص» المواجه لبيتنا فى حى المنيل، وكان نقش الكعك طقسا مبهجا لنا نحن الأطفال كل البهجة، كنا نزاحم الكبار حين يفترشون أرض المطبخ وننهال عليهم بأسئلتنا وأيضا بطلباتنا، كنا نصر على أن ننقش البسكويت على شكل نجوم أو طيور وفى كثير من الأحيان كنا نفسد الصنعة وكانوا يتسامحون معنا. هذه الذكرى موجودة فى إحدى زوايا الذاكرة لا تبارحها، وهى تُلِح على حاليا وأنا أقف فى الطابور فى انتظار شراء كيلو من الكعك الجاهز. ومع أن التطور أفضى لابتكار أنواع جديدة من الكعك لم تكن معروفة على أيامنا، بل مع أن هذا التطور حاول تقليص السعرات الحرارية الضخمة لهذه الحلوى المحببة إلا أن كعك الستينيات كان ألذ ومذاقه كان أطيب، والأهم أنه كانت بيننا وبينه علاقة حميمة فقد وُلد على يدينا وخُبز أمام أعيننا ولسعت حرارة صاجاته أصابعنا ونحن لا «نصبر على رزقنا» كما يقول لنا الكبار ونتعجل استكشاف كيف تحول الدقيق إلى حلوى شهية.
***
هذه الذكرى موجودة إذن فى إحدى زوايا الذاكرة لكنها ليست وحدها، فهناك أيضا الاستعدادات التى كانت تسبق هذا المشهد السنوى العظيم، فقبل أسبوع من ليلة استطلاع هلال شهر شوال كانت أمى تقلب البيت رأسا على عقب، كنا نسمع عن أن هناك «تنضيفة للعيد» ومع أن أحدا قط لم يقدم لنا تعريفا لعبارة «تنضيفة العيد»، لكننا اكتشفنا من خلال المشاهدة أن هذه العبارة تعنى حملة نظافة إضافية تشمل غسل النوافذ والستائر والسجاجيد والثلاجة وكل شىء، ولسبب غير معلوم كان نصيبى من هذه الحملة هو تلميع كريستال النجف فى البيت كله. كنت أعتلى السلم الخشبى بحرص وأمسك بقطعة قماش جافة وأخرى مبللة بالخل وأمر على وحدات الكريستال كبيرة الحجم واحدة تلو أخرى. وفى المرة الأولى التى توليت فيها هذه المهمة كنت أشعر بالفخر لأنى أساهم فى تجهيز البيت لاستقبال العيد مثلى مثل أمى، لكن بمرور الوقت بت أستثقل هذه المهمة التى كانت تشمل ثلاث نجفات كبيرة فى الخارج وأخرى صغيرة فى غرفة والدى. وعندما سقطت هذه النجفة الأخيرة ذات يوم لسبب غير معلوم وحلت محلها نجفة بسيطة بدون كريستال لم أستطع أن أخفى إحساسى بالسعادة لأنى تخلصت من ربع المهمة! أما المهمة التى لم ينقطع شغفى بها قط فكانت رعاية زهور التباروز البيضاء التى يشتريها والدى بهذه المناسبة، فى الحقيقة كان حبى لتلك الزهور نابعا من حبى له شخصيا فقد كانت تلك هى زهوره المفضلة، وظل مداوما على شراء تلك الزهور فى المناسبات السعيدة وبالذات فى الأعياد حتى زهد الحياة ولم تعد رائحة التباروز الهادئة تمثل له قيمة كبيرة.
***
أما يوم العيد نفسه فله فى النفس منزلة خاصة جدا، لم يكن من المعتاد فى وسطنا أن تذهب البنات إلى «الكوافير» لتصفيف شعرها كما يحدث هذه الأيام مع صغيرات دون العاشرة، فمثل تلك المباهج كانت مؤجلة وكنا نعيش سننا نحن وليس سن الكبار. ومع ذلك كان هناك انبهار لا أكتمه بنساء العائلة اللائى يأتين لزيارتنا فى أيام العيد وشعورهن مصفوفة على شكل «أرلوكان» كما كانت تفعل سلوى حجازى مذيعتنا المفضلة بوجهها الملائكى وثقافتها الفرنسية الراقية. أما العادة التى لم تنقطع قط حتى التحقت بالمرحلة الثانوية فكانت اللبس الجديد وكانت أمى ترتاح لذوق محل يُدعى «بول فاڤر» أظنه كان فى شارع قصر النيل، ومع أن تفصيل الملابس كان شائعا فى تلك الأيام وكانت فى بيتنا ماكينة خياطة «سينجر» محترمة إلا أنه جرى العرف أن يكون فستان العيد جاهزا .
***
فى كامل هندامى كنت أنزل صباح يوم العيد لأشترى ما يحلو لى من محل «السمر» الذى مازال موجودا للآن فى حى المنيل وإن اختلف الورثة فيما يبدو فانقسم المحل قسمين، لكن كان على أن أختار من البضائع الكثيرة المغرية التى تملأ المحل.. كلمة «مغرية» هى كلمة نسبية فأظن أن أيا من اللعب التى كان يسيل لها لعابنا فى طفولتنا لا يمكن أن تغرى أحفادنا فى زمن «ترول» و«سبايدرمان». كان مشوار «السمر» إذن مشوارا محببا جدا إلى نفسى، لكن كان يضايقنى أنى أذهب إليه فى صحبة «خادمة» صغيرة فى مثل عمرى أو أقل فما كنت أدرى أينا يأخذ باله من الآخر هى أم أنا، وعبثا حاولت أن أقنع أبى أن هذه المسكينة لا تملك أن تدفع عنى الأذى وأنه لن يحدث شىء إن أنا تمشيت بضع خطوات حتى محل الهدايا لكن قناعته الراسخة كانت أننى لا أعرف الدنيا، ومع أن هذا كان صحيحا فى حينه إلا أن حارستى أيضا لم تكن تعرف الدنيا، على أى حال كان هذا هو الوضع وكان إحساسى بالخجل يتوارى بالتدريج كلما كبرت ليحل محله إحساس بالتذمر والضيق حتى جاء وقت اختفت ظاهرة خدمة الأطفال فى المنازل لكن بعدما صرت أما مسئولة عن أطفال فى عمر «الخادمة» الصغيرة إياها.
***
ها هى روائح العيد الصغير تهل علينا بذكرياتها وناسها الذين ذهبوا من سنين طويلة ومازالوا يعيشون فينا، العيد الصغير هو العيد الأكثر إثارة لأنه يروى العطش ويرتبط بالحلوى بعكس العيد الكبير الذى لم أشعر بمذاقه إلا وأنا أؤدى مناسك الحج فى العام الماضى أما هنا فى القاهرة فلا... هلت روائح عيد الفطر وطالما أنه لا كلام فى السياسة فهناك إذن مساحة للبهجة ولو لمدة أيام ثلاثة.

 

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات