حين يغيب الإدراك.. ويستيقظ المغامرون والمغرضون وأصحاب الهوى - سامح فوزي - بوابة الشروق
الإثنين 30 ديسمبر 2024 8:08 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حين يغيب الإدراك.. ويستيقظ المغامرون والمغرضون وأصحاب الهوى

نشر فى : السبت 22 أكتوبر 2011 - 9:00 ص | آخر تحديث : السبت 22 أكتوبر 2011 - 9:00 ص

يوم السبت 8 أكتوبر اختتمت مقالى فى «الشروق» بإطلاق تحذير بأن الملف القبطى مرشح بقوة كى يكون فى دائرة الصراع بين نظام يتشكل، وآخر يريد العودة. وفى اليوم التالى صدقت النبوءة، التى كنت أود أن تكون هادمة لذاتها، فإذ هى تتحقق بصورة شديدة السفور فيما أطلق عليه «الأحد الدامى» أو «موقعة ماسبيرو»، التى لم تحدث على هذا النحو من العنف من قبل، وأعقبها ارتفاع معدل الاحتقان، والشعور بالإحباط والخوف لدى قطاعات عريضة من الأقباط، فضلا عن بروز خيارات معاكسة لما يجب أن تكون عليه المرحلة الحالية مثل «الهجرة»... التداعيات كثيرة، ولكن لا ينبغى أن تمر هذه الحادثة دون نقد حقيقى.

 

(1)

وقعت الواقعة، وسالت الدماء، وبات واضحا أن الكل يريد أن يغنى على ليلاه. هناك فريق من السياسيين والنشطاء رأى فى الحادثة فرصة لإحراج المجلس العسكرى، ووضعه فى خانة من يدافع عن نفسه، فارتدى مسوح الدفاع عن الأقباط، وهو ما لم يفعلها من قبل، وربما فعل عكس ذلك. والبعض سعى إلى المقارنة بين قتل المتظاهرين فى 28 يناير، وقتلهم فى 9 أكتوبر. الأولى على أيدى الشرطة، والثانية على يد قوات الجيش. ودخلنا فى حرب «الكليبات المصورة»، كل طرف يريد أن يدفع عن نفسه الاتهام باستدعاء جزء من الصورة، وليس كلها. وفى هذا السياق أعاد البعض طرح قضايا ليس لها علاقة مباشرة بمشكلات الأقباط، أو بالاحتقان الطائفى، مثل تسليم السلطة فورا لمجلس رئاسى من المدنيين، فرض ما سمى المبادئ فوق الدستورية، رحيل المجلس العسكرى وأنهاء المرحلة الانتقالية على وجه السرعة، الخ. ويثبت ذلك أن الأقباط لا يزالوا فى منطقة الصيد بين غرماء سياسيين، ينظر إليهم على أنهم «ورقة سياسية» أكثر من اعتبارهم مواطنين كاملى المواطنة، لا يمكن بناء نظام ديمقراطى حقيقى دون تحقيق المساواة بينهم وبين شركائهم من المواطنين المسلمين.

 

(2)

ثمة احتقان ظاهر لا تخطئه عين. الأقباط يشعرون أنهم أحد الخاسرين من ثورة 25 يناير، بعد أن كانوا يمنون أنفسهم بالمواطنة الكاملة فى ظل نظام جديد لا ينظر إليهم بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية مثلما كان يفعل نظام مبارك. لم يطل الشعور بالتفاؤل، فقد رأوا أن جديدا لم يحدث بالنسبة لهم، وعلى العكس ساءت أوضاعهم عما كانت. كنيسة هدمت، أخرى حرقت، ثالثة نقلت من مكانها، رابعة تشهد حالة تحرش طائفى. لم تستطع حكومة شرف أن تحافظ على تقليد آخذ به نظام مبارك فى السنوات الأخيرة من تعيين محافظ قبطى، وكأنه إما أن يكون فى محافظة قنا أو لا يكون، وهو قصر نظر غير مفهوم، ورغبة فى تجنب المواجهة مع ثقافة التعصب، والضيق بالآخر المختلف، ورفض الاعتراف بمواطنة الآخرين. نسمع عن قصص وروايا حول التضييق الاجتماعى على بعض المسيحيين، وإطلاق فتاوى وآراء من المعسكر السلفى تسلب الأقباط المواطنة، وتطعن فى عقيدتهم وسط حالة من «التبلد المعرفى»، أن يطلق داعية سلفى معروف على الأقباط وصف «الكفر» علنا فى وسائل الإعلام، ثم يأتى من يتفلسف ويفسر المسألة على أرضية الايمان بالمعتقد أو الكفر به، ولو طبقنا ذلك لأصبح المجتمع المصرى كفارا فى حالة مواجهة مستمرة. رؤية منغلقة، لا مكان لها فى المجتمع الحديث. اللافت أن يدرس الناس فى المجتمعات المتقدمة كيف يمكن بناء الثقة بين المختلفين، والحض على احترام الاختلاف والتنوع، فإذ نحن فى مجتمعنا نكرس الاختلاف، ونؤصل لوجوده، ونجعله حدا فاصلا بين كفر وإيمان.

 

من حق الأقباط أن يشعروا بالتوجس والقلق، وهو شعور يشاركهم فيه بقية مسيحيى المنطقة، ينظرون إلى ما جرى فى العراق، يرقبون بحذر ما يحدث فى بلدان أخرى مثل مصر، ويخشون من قادم سيئ فى سوريا. والسؤال هل يحمى الاستبداد الأقليات المسيحية ــ بالمعنى العددى أم الديمقراطية؟

 

(3)

يحدث ما يحدث، والأطراف تبدو غير مبالية، وأقل من مستوى الحدث.

 

لا تدرك حكومة الدكتور عصام شرف إلى الآن خطورة المشهد القبطى، وتتعامل معه بمنطق «المظاهرات الفئوية»، لا تبادر فيه بموقف، ولكن تننتظر ارتفاع أصوات الاحتجاج حتى تسعى إلى إسكاتها. ويعرف القاصى والدانى أنها لا تملك من أمرها شيئا، هى تحكم إسما لا فعلا، وتوالى الأحداث كشف ترهلها، وضعفها، ويكفى أن نستمع إلى الروايات الشيقة من الذين كانوا فى بلاطها ثم تركوها كارهين أو مكرهين.

 

لا تدرك القوى السياسية إلى وقتنا هذا الهموم الطائفية، وخطورة استبعاد الأقباط خارج المشهد. ردود الفعل تجاه ما حدث فى «ماسبيرو» تثبت إلى أى حد هناك حالة من غياب الإدراك فى صفوف النخبة السياسية، الذين لم يتفقوا على بيان واحد يعبر عنهم تجاه حادث مثل هذا. هناك فريق اكتفى ببيان الإدانة لما جرى، متحدثا عن أهمية حل ملف بناء الكنائس، وآخرون تحدثوا بعبارات فضفاضة، وبلاغة خطابية يحسدون عليها، ولكن لا شىء أكثر من ذلك. وفريق ثالث لم يعنه من الحادث سوى أنه فتح له بابا جديدا للهجوم على الكنيسة، والأقباط، باعتبارهم الضحية والجلاد فى آن واحد، مثلما ذهبت بعض الفصائل الإسلامية ذات المنحى السلفى الحركى.

 

وهناك من الأقباط أنفسهم من لا يدرك خطورة المشهد الراهن. الرغبة فى امتطاء الزعامة فى المجتمع القبطى، اللعب على أوتار «الراديكالية الدينية»، التعبئة والتجييش، التلويح بأوراق التحقيق الدولى، والحماية الدولية، وما شابه وهى جميعا من الخيارات المهلكة، والتى لا يدرك كثيرون تداعياتها، ويستدعى ذلك وقفة حقيقية للتعامل مع المشهد الحالى، وبلورة خطاب حقوقى يؤكد على المواطنة، وتشجيع الأقباط على الانخراط فى الحياة العامة دون حساسية أو انكماش، ودفع المجتمع، بمختلف أطيافه على الاعتراف بأن الأقباط شركاء فعليين فى صنع المستقبل، وليسوا مجرد «أيقونة» ملونة لتجميل حائط مصمت من لون واحد.

 

(4)

هل نطلب أن يتحمل الناس مسئوليتهم، ويحتفظون ببعض من «كرات الدم الحمراء» فى عروقهم؟، لا يمكن أن نبنى نظاما ديمقراطيا بينما يعانى قطاع من المواطنين بالتمييز حياله بسبب الاختلاف فى المعتقد الدينى،واغلاق منافذ الحراك السياسى أمامه، ومطاردته بخطابات التكفير والطعن فى العقيدة المسيحية. التجربة تقول أن ذلك يفتح منافذ لا تغلق من التدخل الدولى الذى لا يستطيع أحد يصده، ولن يفلح معها خطاب التكاذب. ولا يمكن أن نبنى نظاما ديمقراطيا دون احترام للحقوق الثقافية للمواطنين المختلفين فى المعتقد الدينى، وأهمها أداء الشعائر الدينية دون عوائق، النأى بالمعتقد الدينى عن جميع مظاهر الطعن والازدراء، التطبيق الحازم للقانون على الجرائم التى ترتكب فى حق المختلفين فى الدين، الخ. فالحقوق الثقافية للمواطنين لم تعد تنفصل عن الحقوق السياسية والاقتصادية، وهناك جهود دولية لتقنينها على غرار العهدين الدوليين للحقوق السياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية. وأخيرا لا يمكن بناء نظام ديمقراطى بينما يوجد بين ظهرانينا من يريد أحياء تجارب سياسية غابرة عرفت المواطن مكتمل المواطنة بالاستناد إلى فقه قديم، عفى عليه الزمن، كرس أوضاعا مجتمعية كان فيها المواطن فى مواجهة الأغيار من أهل الذمة. اليوم هناك من يسعى إلى إنشاء دولة جديدة تحمل هذا الفقه، فنكون مثل الذى وضع خمر جديد فى آنية عتيقة، فلم يحتمل القديم الجديد، ولم يفلح الجديد مع القديم، فكان التهرؤ، ونهاية الاثنين معا.

سامح فوزي  كاتب وناشط مدني
التعليقات