عالم الأفكار ممتع. ممارسة نشاط ذهنى لاستخراج حلول غير تقليدية أو «من خارج الصندوق» هى من الأمور التى نجيدها فى مصر بشكل كبير. فى أى برنامج تلفزيونى أو لقاء فكرى أو أكاديمى أو على صفحات التواصل الاجتماعى هناك عشرات أو مئات أو ربما آلاف الأفكار التى تطرح حلولا لعشرات المشكلات التى تواجهها مصر، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، لكن لا تخرج عادة هذه الأفكار من شرنقة الترف الفكرى إلى مطحنة الحياة العملية فى شكل آليات قابلة للتنفيذ، وهو عادة ما يولد ردود فعل عصبية تتهم القائمين على الأمر بعدم الاهتمام وتقدير الأفكار، فيما يرد الأخيرون بأن الأفكار نظرية ولا تعلم شيئا عن تعقيدات الواقع!
فى مصر ومنذ تولى رئيس الجمهورية مهام عمله فى يونيو ٢٠١٤ فهناك ظاهرة جديدة لافتة للنظر، وهى أن الرئيس بنفسه يطرح عددا من الأفكار والمبادرات المتعلقة بحلول مشكلات لها علاقة بالشأن العام دون أن يطرح آليات محددة للتنفيذ، فتنتهى عادة هذه الأفكار الرئاسية دون تأثير حقيقى على أرض الواقع بعد فترة قصيرة من الصخب والتغطية الإعلامية المكثفة التى ما تلبث أن تنطفئ تدريجيا حتى تتلاشى تماما حتى تأتى فكرة جديدة وهكذا.
منذ إعلان ترشحه لرئاسة الجمهورية أعلن رئيس الجمهورية عددا من «الأفكار» أو«المبادرات» التى لم تكن مدعومة بأى آليات للتنفيذ، فمثلا تم الإعلان عن مشروع «لمبات موفرة» كانت أحد شعارات الحملة الرئاسية فى ٢٠١٤، بعدها كانت مبادرة ركوب الدراجات للذهاب للعمل، ثم مبادرة جديدة لتحويل جنيه مع كل صباح عبر رسائل الهواتف المحمولة، ثم أخيرا مبادرة لجمع كسور المبالغ التى تودع فى البنوك. بين مبادرة اللمبات ومبادرة الفكة هناك عشرات المبادرات والأفكار الأخرى، منها مبادرات لتشجيع النوابغ، ومبادرة أخرى لضخ ٢٠٠ مليار جنيه لدعم المشاريع الصغيرة أعلن موقع «برلمانى» أخيرا عبر تحقيق صحفى أن «جنيها واحدا لم يصل منها»، وهكذا كان الحال بالنسبة لمعظم الأفكار والمبادرات الرئاسية!
***
هنا يكون السؤال بسيطا، لماذا لا تنجح هذه المبادرات؟
أعتقد أن هناك ثلاثة أسباب رئيسية لعدم النجاح:
السبب الأول هى أنها تأتى من الرئيس! بعبارة أخرى لأن مصدر الفكرة هو الرئيس فإنها تطرح زخما مسيسا لا يتعامل مع الفكرة بتقييم علمى ولكنه يتعامل معها بأنها «تعليمات الرئيس» ومن هنا فلا يتم أى نقاش موضوعى للفكرة ولكن يتم الاحتفاء بها دون نقاش ومحاولة دفعها دفعا للشأن العام، البعض بدافع الخوف والبعض الآخر بدافع الاحتفاء والثقة والبعض الثالث بدافع البحث عن أضواء إعلامية، وهكذا حتى يأخذ الزخم دورته الطبيعية وينتهى إلى نتيجته المحتومة حتى يبدأ آخر جديد.
السبب الثانى أن الرئيس عادة لا يطرح أفكاره على المسئولين ليبحث عن جدوى التنفيذ قبل إعلان الفكرة أو المبادرة، فهو شخص مؤمن بنفسه وبإلهامه الشخصى، ومن هنا فهو يعشق السبق فى طرح الأفكار على العامة ثم يطلب من المسئولين البحث عن كيفية التنفيذ. كان ذلك واضحا للغاية فى المبادرة الأخيرة لجمع «الفكة»، فقد قال الرئيس نصا: «عاوز الفلوس دى معرفش ازاى... اتصرفوا»! هذا دليل أنه لم يكن هناك نقاش للفكرة أو جدواها أو حتى طريقة تنفيذها قبل الطرح، وهو ما يضع تعقيدات أخرى بخصوص آلية التنفيذ وينتهى إلى ما ينتهى إليه باقى الأفكار.
أما السبب الثالث والأخير هو فى الحدود الفاصلة بين الدولة بمؤسساتها ومسئوليها وبين المجتمع المدنى! المجتمع المدنى هو المنوط به بالأساس طرح الأفكار والمبادرات، والتى يكون هدفها بالأساس إما زيادة الوعى أو محاولة تعبئة الجماهير وإما المساهمة فى تصحيح بعض المفاهيم أو العادات أو الممارسات الخاطئة، أما مؤسسات الدولة فعلى الرغم من أنها قد تطرح بعض المبادرات بالتعاون مع المجتمع المدنى، فإن مهمتها الرئيسية تبقى فى طرح «سياسات» لا مبادرات أو أفكار وهو ما يتطلب محتوى لبدائل مختلفة لحل القضايا العامة (التعليم، الصحة، الأمن، الضمانات الاجتماعية..الخ)، وتصور كامل عن وضع آليات التنفيذ ثم التنفيذ والتقييم وتحمل المسئولية عن كل هذه المراحل. التعاون بين المجتمع المدنى بمفهومه الواسع وبين مؤسسات الدولة فى تنفيذ السياسات أو تبنى المبادرات أيضا أمر محمود ولكنه يتطلب إطارا مؤسسيا يقوم بتحديد المسئوليات والواجبات على كلا الطرفين، كما أنه لايمكن تصور أن يكون هذا التعاون مثمرا فى ظل تضييقات متصاعدة يتعرض لها المجتمع المدنى من مؤسسات الدولة فى ظل جو عام من عدم الثقة والتخوين والتصعيد.
***
فى كل الأزمات التى تتعرض لها مصر عادة ما يستسهل المسئول لوم الناس! الأسبوع الماضى فقط وعلى هامش أزمات عدم توافر بعض السلع الأساسية أو غلاء أخرى، فإن أكثر من مسئول وجه اللوم للناس متهما إياها بالتبذير أو بالجشع، بل أن أحدهم ــ وزير التموين ــ طالب الناس بالصبر وإلا سيكون مصير الجميع (معسكرات اللاجئين)، ولا نعلم ما العلاقة بغضب الناس من عدم توافر السلع الأساسية وبين معسكرات اللاجئين، ولماذا هذه المقايضة من الأصل بين حق الناس فى الحياة الكريمة وبين إخافتهم بالتشتت والتقسم واللجوء؟!
بدلا من إخافة الناس، أو إلقاء اللوم عليهم أو حتى طرح المزيد من المبادرات والأفكار لحل الأزمات، مطلوب جدول زمنى لمجموعة سياسات معلنة لضبط الأسواق والأسعار وتوفير السلع فى مقابل تحمل الحكومة بالكامل للمسئولية السياسية فى حال العجز عن الوفاء بهذه السياسات خلال هذا الجدول الزمنى.
إذن فعلى الجميع مطالبة مؤسسات الدولة ومسئوليها بتبنى سياسات لا مبادرات أو أفكار، سياسات تحمل المسئولية للسلطة ولا تستسهل إلقاء اللوم على الشعب هكذا ببساطة! ولكن وحتى يكون ذلك ممكنا فلابد من التوقف عن خنق البيئة السياسية التى تجرم التعددية السياسية، ولابد من تفعيل الأطر الدستورية والقانونية القائمة بالفعل حتى يمكن توفير حد أدنى للمحاسبة والرقابة والتوازن بين السلطات، وهو أمر تفتقده مصر بقوة هذه الأيام تحت حجج متنوعة تتحدث عن الاستثناء وتعتبر أن الرقابة والفصل والتوازن من أعمال «تعطيل» مسيرة العمل وهو أمر غير صحيح إطلاقا؛ لأن أى مجتمع لا يعرف الفصل والتوازن والرقابة بين سلطاته فإن كل هذه السلطات تختزل ويتم تركيزها فى يد سلطة واحدة لا يمكن محاسبتها ومن هنا تبدأ سلسلة جديدة من الاستقطابات والانسدادات السياسية.
فى مصر نحن فى حاجة ماسة أن نضع حدودا للتمييز بين المجتمع المدنى والسلطة من ناحية وبين وظائف وهياكل السلطة (تشريعا، تنفيذا، ومحاسبة) من ناحية أخرى. صحيح أن هذه الحدود تبدو منطقية لكن للأسف يبدو أننا فى حاجة للتذكير بها من وقت لآخر لأن البعض ينساها أو يتناساها لا أعلم على وجه التحديد!