عشر قصص جمعتها الكاتبة الشابة وفاء السعيد فى أول عمل أدبى منشور صدر لها قبل نحو شهر عن دار الكتب للنشر والتوزيع. فى زمن يفر فيه الجميع إلى السياسة طلبًا لفهم ما تموج به مجتمعاتهم من تطورات متلاحقة، تفر وفاء من السياسة التى هى تخصصها الأصيل إلى الأدب فلا تقارب الشأن السياسى فى مجمل القصص العشر إلا فى اثنتين فقط. القصة الأولى بعنوان «الحب فى زمن الخوف»، وتحكى عن فتاة سقط حبيبها صريع مواجهات لا ناقة له فيها ولا جمل، بين قوات الأمن وجموع المتظاهرين. والقصة الثانية بعنوان «حرية وشام» وتصور علاقة ناعمة بين مصرية وسورى جمعهما حب آلة العود وبغض الاستبداد السياسى فى بلديهما، حتى إذا توج الزواج حبهما وأثمر توءمًا أعطياه هذين الاسمين الغريبين حرية وشاما. عدا هذين العملين انقطعت العلاقة المباشرة مع السياسة، أما العلاقة غير المباشرة فهى تسكن التفاصيل بشكل أو آخر فلا شىء يخلو من سياسة.
•••
أبطال «ثمرة الخريف المحرمة» هم أشخاص يغتربون فى المجمل عن عالمهم ويقدمون تنويعات مختلفة لعلاقة الاغتراب تلك. من أول الفتاة التى تتمرد على التقاليد، فيعاقبها المجتمع بزوج فى خريف العمر مفترضًا فيه الحكمة كلها، إلى الطالبة التى تنقطع شعوريًا عن وسطها الجامعى، فلا تفهم حرفًا ولا تصادق أحدًا؛ بل تنكفئ على فقرها ونفورها من كل ما حولها، إلى الزوجة التى لا تشارك زوجها إلا فراشه فيما الأحاسيس معطلة، إلى الكهل الذى يحبسه عمره فى قالب لا يناسبه فتصده امرأته، إن تودد لها ولا يُقبل منه إلا التأقلم مع الفراغ ولعبة النرد. فى جميع تلك الأحوال نحن إزاء شخصيات تنفصل شعوريًا عن واقعها لأنها تختلف عنه، فمنها ما ينجح فى المثابرة والتمرد ومنها من يستسلم ويشيع إلى مصيره دون مقاومة. لذلك سيكثر لجوء الكاتبة إلى «المرآة» لتضع أبطالها فى مواجهة أنفسهم، يبحثون عن صورهم ويتأكدون أنهم هم حين يخلون إلى أنفسهم وأنهم يتصرفون كما يريدون لا كما ينبغى لهم أن يتصرفوا. وهكذا تتفرس بطلة «ثمرة الخريف المحرمة» فى وجهها غير مرة ممسكة بمرآتها، وتحملق بطلة «قنينة عطر وباقة زهر» فى المرآة تعاين آثار إهمال الزوج والعيش مع شخص ليس ثمة شبها بينه وبين ذلك الذى ارتبطت به فى الأيام الخوالى، وتنظر بطلة «الحب فى زمن الخوف» إلى المرآة وتسأل السؤال المستحيل: هل يحرمها القدر من الشخص الوحيد الذى أحبته؟ فلا تجيبها المرآة قطعًا، إنما تجيبها طلقات رصاص تردى حبيبها قتيلًا وتخضب قسماته اللينة بالدماء.
•••
فى خلفية أعمال المجموعة القصصية يلاحظ القارئ حضورًا قويًا لشخصية إحسان عبدالقدوس الأدبية. وفى قصة «ليبرالية أنا» بالتحديد استلهام لجوهر فكرة إحسان عن الفتاة المتمردة، التى تصطدم بالطابع المحافظ للمجتمع وأيضًا لرفيق الصبا. كل الفارق أن بطلة «أنا حرة» عند إحسان تطورت شخصيتها ونضجت مع خروجها إلى العمل واحتدام النضال الوطنى ضد المحتل البريطانى، أما بطلة وفاء السعيد فأغلقت قصتها على جملة كتبتها على ظهرها، وخرجت بها إلى الطريق العام فأدهشت المارة وجذبت سخريتهم. أما الجملة فهى «ليبرالية أنا اتركونى أحيا بحرية». تدريجيًا سوف تتبلور هوية وفاء الأدبية وتكون نفسها، فمسألة الأديب النموذج عادة ما تهيمن على العمل الأول. ومع ذلك، فإن التأثر بنموذج إحسان وأيضًا كتابات أحلام مستغانمى بقوة قد أكسب كتابة وفاء جرأة لا تتوافر لكثيرات من بنات جيلها، فإذا أنت تجد المفردات المتعلقة بجسد المرأة ومشاعرها الخاصة جدًا تتخلل أغلب قصص المجموعة، وهذا يطمئن على أن الكاتبة تملك زمام قلمها، الأمر الكفيل بإدامة إنتاجها، فالأدب المقيد أو الحبيس لا عُمر له والإبداع الحقيقى شرطه الحرية.
أسلوب المجموعة سلس بشكل عام، الجُمل قصيرة كما ينبغى للعمل الأدبى أن يكون، وبعض التعبيرات مبتكرة. أعجبنى وصف وفاء اللون الرمادى بأنه لون جبان يخشى المواجهة ويؤثر السلامة، وقد قالت ذلك فى معرض نقدها نزوع الشرق إلى المناطق الوسطى والمواقف غير الحاسمة. وأعجبنى وصفها الفتاة الليبرالية حين طبعت مطلب الحرية على ثوبها بأنها «ارتدت فكرتها»، فالمرء يختزن فكرته وقد يعبر عنها قولًا أو كتابة أما أن يرتديها فهذا جديد. وأعجبنى استنكارها ربط البداوة بالقوة متسائلة «هل كان عنترة رأسماليًا... أو قيس اشتراكيًا»؟ وكل تعميم خطأ بالضرورة. لكن بعض التراكيب اللغوية بدت ثقيلة على الأذن كما فى قولها «نهرول نطفق لنخصف علينا من ورق البستان» فى قصة «إلى آدم»، فاجتماع الأفعال الثلاثة معًا غير محبذ. كذلك فإن الحكى فى بعض الأحيان كما فى قصة «ثمرة الخريف المحرمة» كان أقرب إلى المناجاة المرتبطة بمعنى معين فى ذهن الكاتبة على نحو يجعل المعنى غامضا، وإذا كان الأسلوب المباشر ضد الإبداع بالضرورة إلا أن بعض الإفصاح مطلوب لأنه يشرك القارئ فى فكر كاتبه.
•••
على مدار ساعتين استمتعت بقراءة المجموعة القصصية الأولى للكاتبة وفاء السعيد، تخطو بها إلى الساحة الأدبية وتقدم قلمًا نسائيًا جريئًا فى زمن يحيل صوت المرأة، ناهيك عن قلمها، إلى محض عورة.