راغبا فى توثيق تحولات القاهرة العمرانية، جئت إلى «تل العقارب» بعد أن غيرت الحكومة اسمه إلى «روضة السيدة زينب».
نادرا ما يشهد الجغرافى تبدل أسماء الأماكن. والأندر أن يعرف أسباب التبدل ضمن صيرورة متجددة. حيث لا يمكن تثبيت ملامح وبنية عمران مدينة بحجم وزخم القاهرة، موسوعية المحتويات.
«تل العقارب» اسم شهير فى شارع «المدبح» أو «السلخانة».
يحمل الشارع روائح ومشاهد من نمط عتيق ونشاطا اقتصاديا عرفته القاهرة لقرون ممتدة، قبل أن يتم نقل النشاط إلى خارج المدينة بعد انهيار اشتراطاته الصحية. ولم يؤد النقل لإنهاء وجود بعض طاولات وعربات صغيرة لبيع الكرشة والفشة والكوارع على جانبى الشارع، تمتلكها سيدات عفيات، تمسكا بماض امتد لقرنين، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
الشارع على مرمى حجر من مسجد ومقام وضريح سيدى «زين العابدين». وقريب من مقام «أبو الريش»، ويشرف على شارع «السد البرانى» العتيق.
لا أشك أنهم سيزيلون ضريح «أبو الريش» قريبا، ليصبح فى ذمة التاريخ، بعدما أعطى اسمه للمستشفى الشهير والمكان. هو يقف الآن وحيدا فريدا لا يمسه أحد بهدم أو إزالة، لكنه قد لا ينجو لتفرده باحتلاله موقعا عبقريا عند التقاء ثلاثة شوارع رئيسية، السد البرانى وبيرم التونسى وشارع بورسعيد الذى عرف لقرون بالخليج المصرى.
تل العقارب، فى مكان لا تخطئه العين. يضم موقعا قبطيا نادرا فى شارع «الديورة». «الديورة» نطق قبطى لكلمة «الأديرة»، التى يتخذها المسيحيون مقرا للرهبنة فى بعض الأماكن. من وسط القاهرة الصاخبة التى تعج بالزحام وفيضان البشر ليل نهار كان موطنا لأديرة الرهبنة..
أية رهبنة والمحيط الصاخب يشتت القلب والعقل؟
ربما نستطيع إعادة بناء صورة القاهرة قبل بضعة قرون من الزمن حينما كانت هذه المنطقة فى عزلة وهدوء وصفاء، وبمنأى عن كل ما يؤرق القلوب، ويشوش النفوس. يضم شارع «الديورة» دير «مار مينا العجايبى»، بجانب بعض الخدمات المسيحية والمقابر والزيارات المقدسة.
القديس المصرى الشهير «مار مينا» يعود للعصر الرومانى، غير بعيد عن «تل العقارب»، وكأنه قد قطع مئات الكيلومترات من مقره شمالى الصحراء الغربية بمريوط، حيث مدينة «برج العرب الجديدة». عاش «مار مينا» قرونا عديدة كان فيها «حارسا» لشمال الصحراء الغربية، وكانت تتدفق عليه أفواج الزائرين و«الحجاج».
«تل العقارب» ودير «مار رمينا» يجمعهما مسجد «الطيبى» على ناصية الشارع، وهى المنطقة التوءم لتل العقارب وتشهد بدورها تغييرا عمرانيا، قد يجعل اسمها «روضة السيدة زينب 2» باكتمال تحديثها بعدما كانت «سكنا عشوائيا».
والسكن العشوائى مصطلح يتراجع لانتباه علماء الجغرافيا والمدن والاجتماع إلى أنه ينطوى على إساءة لسكانه. فالسكان لا يختارون أن يكونوا «عشوائيين»، فالفقر والهجرة من بطالة الريف سبب ظهور هذا النمط العمرانى، ويميل العلماء لتسميته
بـ «السكن غير المخطط». كمصطلح أكثر تأدبا ولطفا، بدلا من مدن الصفيح والقمامة، وما شابه.
سكان الحى الأصليين، تم نقلهم مؤقتا خلال عملية الهدم والإزالة إلى مقر سكنى فى المقطم، ثم أعيدوا بعد انتهاء البلوكات العمرانية الجميلة. دفع السكان بضعة آلاف من الجنيهات نظير التجديدات، بجانب تحملهم فواتير المياه والكهرباء والخدمات الأخرى مثل بقية سكان القاهرة. عاد السكان ليجدوا السكن مفروشا بأثاث مناسب. يستخدمونه، ولا يملكون حق بيعه أو التصرف فيه أو نقله خارج الحى، ولا تطالبهم الحكومة به فهو حق لهم ولأبنائهم.
لا يملك السكان الحق فى المحال التجارية أسفل العمارات، فالدولة ستطرحها للإيجار أو التمليك لاسترداد جزء من تكاليف الهدم والبناء. ونظرا لأن المنطقة كانت «غير مخططة» فقد كسب التخطيط 5 عمارات على الشارع الرئيسى تم بيعها للتمليك الاستثمارى الحر لتغطية جزء آخر من التكلفة.
يمكن لأى زائر اليوم أن يمر بروضة السيدة زينب (تل العقارب سابقا) ويرى الوحدات السكنية ويلحظ أبناء المنطقة وهم يلعبون فى شوارع نظيفة منظمة.
هذا النمط المعمارى بتنظيمه الجديد ينقلنا إلى أبعاد اجتماعية فى حياة «تل العقارب» بعدما أصبحت «روضة السيدة زينب». ويطرح أسئلة عديدة تحتاج لعلماء الاجتماع وباحثى الجغرافيا الاجتماعية.
أسئلة مثل: هل تغير سكان المنطقة للأفضل أم للأسوأ؟
ماذا تبدل فى المنظومة الاجتماعية؟ وهل كان للأفضل بعد التنسيق والتنظيم والترتيب؟
هل ساهم هذا النظام الجديد فى الحد من الجرائم والمخالفات القانونية وانتشار المخدرات؟ أم أصبحت أكبر؟ وصار «البرشام» أسهل وأكثر انتشارا وتوزيعا فى كل مكان؟
كيف يمكن توفير فرص عمل نظيفة وآمنة ومربحة للسكان الأصليين الذين عادوا فعلا وقد خسروا أنماط عملهم التقليدى القديم؟
من يجيب؟!