منذ عدة أيام مر علينا اليوم العالمى للغة العربية (18 ديسمبر) وهو اليوم الذى أدرجت فيه الأمم المتحدة اللغة العربية كلغة رسمية سنة 1973. احتفالا بذلك اليوم شهد الأسبوع الماضى عدة فعاليات وقد حضر كاتب هذه السطور إحدى تلك الفعاليات الخميس الماضى فى دار الكتب والوثائق المصرية وكانت الندوة عن اللغة العربية والهوية وكانت ندوة مفيدة وثرية للغاية وإن كان الحضور لم يكن بالعدد الكافى. فى هذا المقال سنتكلم عن اللغة العربية والعلم والتكنولوجيا فى القرن الحادى والعشرين. الحديث عن اللغة العربية هو حديث ذو شجون لأن اللغة العربية كانت لغة العلم لعدة قرون قبل أن تفسح المجال للغات أخرى. الآن لغة العلم هى الإنجليزية وكانت الألمانية لفترة قبل الحرب العالمية الثانية. مقال اليوم هو مجرد ومضات وأشتات مجتمعة عن اللغة العربية.
...
يجب أن نفرق بين اللغة العربية والعامية التى نتكلم بها. العربية تجمع دولا عدة تحت جناحها لكن العامية لصيقة أكثر بكل دولة ومتأثرة بثقافتها. يجب أن نضع فى الاعتبار أن العامة لم يتحدثوا باللغة العربية الفصحى قط فى تاريخ مصر كله حتى وإن كانت اللغة الرسمية للبلاد فى العصر الحديث هى اللغة العربية. لكن إذا نظرنا حولنا سنلاحظ عدة أشياء:
• أصبحت اللغة العامية هى المستخدمة فى أغلب الإعلانات فى الشوارع وحتى فى التليفزيون.
• حتى عندما يحاول البعض الكتابة بالعربية فسنرى العجب من الأخطاء النحوية والإملائية، انظر مثلا إلى الأخطاء فى استخدام التاء المربوطة والهاء، وهذا فقط مثال صغير.
• الكثير من الناس خاصة من الأجيال الجديدة تتكلم باللغات الأجنبية فيما بينها حتى ولو كانوا جميعا من المصريين، بل إن البعض يفتخر بذلك.
• أسماء بعض المحال التجارية والمولات هى أسماء أجنبية مكتوبة بالعربية، حتى كلمة «مول» نفسها هى كلمة إنجليزية.
إذا حاولنا تحليل أسباب هذه الظواهر سنجد الآتى وهو رأى شخصى يحتمل الصواب والخطأ ويجب على علماء النفس والاجتماع القيام بدراسة تلك الظواهر فى القرن الواحد والعشرين.
• نحن نعيش فى عصر رأسمالى متوحش تسيطر عليه الشركات عابرة القارات ويأخذ الاقتصاد فيه بخناق الدول وبالتالى يحرص الأهل على إعطاء أبنائهم أفضل الفرص للالتحاق بتلك الشركات والتى تحتاج بالطبع إلى لغات أجنبية، لذلك انتشرت المدارس الدولية التى تهتم باللغات الأجنبية أكثر بكثير من العربية. أما كلمات مثل الهوية واللغة الأم إلخ فللأسف لا يفهمها أغلب الجيل الجديد.
• استخدام اللغة العامية فى الكتابة والقراءة أسهل من استخدام اللغة العربية عند أغلب الناس.
• نحن نعانى من عقدة الخواجة (وقد تحدثنا عنها فى مقال قديم منذ عدة سنوات) وبالتالى الأسماء الأجنبية للمحال التجارية قد تجذب عددا أكبر من الناس.
بالرغم من كل ذلك فاللغة العربية باقية، لكن ما العلاقة بين اللغة العربية والعلوم والتكنولوجيا؟
...
بناء برمجيات تفهم اللغات الحية وتترجم من لغة إلى أخرى هى إحدى التخصصات المهمة فى علوم الحاسب ولدينا فى الوطن العربى باحثون على مستوى عالمى فى هذا المجال. أمريكا تنفق الكثير على هذا التخصص خاصة فيما يتعلق باللغتين العربية والصينية. اللغة البشرية تختلف عن لغات البرمجة لأن لغة البشر تعتمد على الموقف وقد تحتمل الجملة الواحدة عدة معانٍ وهناك طرق عديدة لقول نفس المعنى وهذا يجعل الأمر صعبا على أجهزة الكمبيوتر. اللغات العامية قد تكون أصعب من العربية لأنها تعتمد على الثقافة، فمثلا عندما نقول جملة مثل «ده دماغه دى سم» فهى جملة تستخدم فى المدح للدلالة على الذكاء الشديد لكن سيكون من الصعب جدا على الكمبيوتر فهمها على هذا المراد على الأقل حتى الآن.
كلما كانت اللغة ثرية من حيث التركيبات والجذور والتركيبات البلاغة كلما صعب الأمر على الكمبيوتر.
هناك إذا الكثير من العمل أمام الباحثين فى مجال معالجة اللغات الحية وكيفية الاستفادة من الذكاء الاصطناعى فى هذا المجال، الطريق ما زال طويلا.
نأتى إلى السؤال المهم: ماذا نستطيع أن نفعل فى وقتنا الحاضر للغة العربية؟
...
هناك عدة أشياء نستطيع القيام بها الآن:
• يجب أن ننتشر حركة الترجمة للكتب العلمية أكثر وأكثر. المركز القومى للترجمة يقوم بعمل رائع لكن دائما هناك مكانا للمزيد، الكتب العلمية الموجهة للعامة تصدر بالمئات فى العالم كل سنة. الكثير من الناس لا تتقن لغات أجنبية بمهارة تجعلها تستمتع بقراءة كتاب علمى، لذلك الترجمة ستساهم فى خلق مجتمع علمى وفى نفس الوقت نشر استخدام اللغة العربية.
• يجب تسهيل تعلم العربية خاصة قواعد النحو والإملاء بطرق سهلة وشيقة للعامة، هناك بعض المبادرات الرائعة مثل مبادرة «اكتب صح»، لكن كما قلنا هناك دائما مكان للمزيد حتى نعيد للغة العربية شعبيتها.
• يجب أن نكثر من المقالات العلمية الموجهة للعامة وأن تكون مكتوبة بطريقة شيقة وسهلة وبلغة عربية رصينة، وقد تكلمنا فى مقال سابق عن الصحافة العلمية وماهية صفات المقال العلمى الموجه للعامة.
• بخلاف الترجمة من الجميل أن نكتب كتب علمية موجهة للعامة ومكتوبة بالعربية من البداية، لدينا بعض الكتاب الموهوبين فى هذا المضمار، ولكننا نطمع فى المزيد.
• لا نستطيع أن نقول إننا يجب أن ندعو للنشر العلمى بالعربية خاصة فى العلوم التطبيقية مثل الهندسة والطب لأن لغة العلم الآن هى الإنجليزية وبالتالى المجلات العملية والمؤتمرات المعتبرة تنشر بالإنجليزية، لذلك النشر بالعربية جهد لا طائل منه فى الوقت الحالى.
اللغة العربية لغة ثرية وقوية لكن انخفاض شعبيتها يرجع إلى تأخر علمى للدول الناطقة بها والسعى وراء المال فى الشركات الأجنبية، لذلك لا يجب أن نكثر من المحاضرات والندوات التى تتحدث عن قوة اللغة العربية، فالمشكلة ليست هنا.