نشر موقع 180 مقالا للكاتب على عبادى، يعرض فيه وجهتين نظر حول جدوى استمرار القتال فى جنوب لبنان ضد إسرائيل، حيث ترى إحدى الوجهتين أن من الأفضل نقل المقاومة من المستوى العسكرى إلى المستوى السلمى من خلال التظاهرات السلمية والمنصات الإعلامية المختلفة لما تشكله من مخاطر على استقرار لبنان، أما الرأى الآخر يرى أن القتال اتخذ منحنى روتينيا لا يؤثر على العدو فالأفضل تغيير استراتيجية القتال أو إيقافه. لكن يرى الكاتب أن المقاومة فى الجنوب اللبنانى لها تأثيراتها فى إسرائيل، فمثلا اضطر العدو إلى تجزئة القتال فى غزة لافتقاد الزخم البشرى اللازم... نعرض من المقال ما يلى.مُجدَّدا يُثار نقاش إعلامى وسياسى فى لبنان حول جدوى القتال ضد العدو الإسرائيلى على الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة. يُطلق هذا الجدل فريقان: الأول يرفض انطلاق العمليات ضد الاحتلال من الأراضى اللبنانية بصرف النظر عن أهدافها أو منفذيها، والثانى يطرح تساؤلات حول جدوى العمليات اليومية بالقياس إلى أهدافها فى نصرة الشعب الفلسطينى فى قطاع غزة.
يستخدم الفريق الأول التصريحات الصحفية ويعرض منشورات وفيديوهات مموَّلة على مواقع التواصل الاجتماعى تدعو للتمسك بقرار مجلس الأمن 1701 الذى وضع رسميا حدا لحرب 2006 بعد إخفاق إسرائيل فى الوصول إلى أهدافها، أو تدعو لعدم تكرار تلك الحرب. وهذا الفريق، سواء كان ينطق بأسماء صريحة أو مموَّهة، ينسجم مع موقفه المعارض لأصل المقاومة المسلحة ضد العدو، معتبرا أنها تضرّ بلبنان، وأن التضامن مع غزة إنما يتم بالتظاهرات السلمية والاعتصامات أو بأشكال إعلامية مختلفة.
أما الفريق الثانى – إذا صحّ أنه فريق باعتبار أن ملامحه السياسية ليست واضحة – فيطرح الموضوع من زاوية مختلفة إلى حد ما، إذ إنه لا يعترض صراحة على المقاومة المسلحة، لكنه قد يرى أن العمليات فى الآونة الأخيرة اتخذت منحى «روتينيا» لا يؤثر – من وجهة نظره – فى مجرى الحرب على غزة، وبالتالى فهو يدعو إلى إعادة النظر فى استمرارها بهذا الشكل أو إلى إيقافها.
معايير قياس الجدوى
منذ الثامن من أكتوبر الماضى ولغاية تاريخ كتابة هذه السطور، نفذ حزب الله حوالى 530 عملية ضد المواقع الحدودية الأمامية والخلفية، فارضا نوعا من الشلل على قوات العدو البرية يتجسد فى عجزها عن استبدال تجهيزات تجسسية مدمَّرة أو إعادة بناء تحصينات أو القيام بأى حركة مطاردة خارج هذه المواقع، مع ما يتوفر لها من تغطية جوية ومدفعية ومدرعات.
وأخرج الحزب من جعبته وسائل قتالية عدة من الصواريخ الموجَّهة التى استخدمها بكثافة ودقة لضرب تجمعات للمشاة وتجهيزات فنية لجمع المعلومات ودشم عسكرية، إلى صواريخ ثقيلة من طراز «بركان» ذات الحمولة الكبيرة من المتفجرات لتدمير التحصينات، ووصولا إلى الطائرات المُسيّرة الانقضاضية التى تستهدف بدقة مواقع للعدو منتشرة على طول الحدود (أو فى مواقع خلفية)، وصواريخ أرض – جو لضرب مُسيّرات إسرائيلية (تم إسقاط 3 منها).
هناك معياران قاصران مطروحان فى تقييم عمليات المقاومة وأثرها على جيش العدو وتجمعاته الاستيطانية فى شمالى فلسطين المحتلة:
المعيار الأول؛ عدد المصابين الذين يعترف بهم العدو. وهذا المعيار لا يمكن الأخذ به، فى ظل قرار إسرائيلى بالتعتيم على الإصابات فى الجبهة الشمالية إلا ما ندر (رقابة غير مسبوقة)، والسبب واضح: الأولوية لجبهة غزة، وأى اعتراف بحقيقة الخسائر فى المواجهة على حدود لبنان سيحوّل الانتباه الإسرائيلى الداخلى عن جبهة غزة وسيشكل عاملا ضاغطا للقيام بتوسيع نطاق العمليات الحربية فى الشمال، وبالتالى احتمال الانزلاق إلى حرب إقليمية تُشتت الجهد العسكرى الإسرائيلى فى غزة لكنها لن تلغى التوجّه الحاصل لتصفية الحساب مع القطاع. يضاف إلى ذلك، أن عددا ممن يقاتلون إلى جانب جيش الاحتلال هم متطوعون يحملون جنسيات أمريكية وفرنسية وبريطانية وإسبانية توافدوا إلى كيان الاحتلال بعد عملية «طوفان الأقصى» وليسوا مسجَّلين فى قائمة الجنود النظاميين.
المعيار الثانى: تحقُّق وقف العدوان على غزة؛ يفترض بعضهم أن العمليات ينبغى أن تؤدى إلى وقف العدوان خلال فترة معقولة. وإذا لم يتحقق ذلك، فليتمّ تصعيدها إلى مدى أبعد للوصول إلى هذا الهدف، أو فلتتوقف العمليات إذا لم يكن ذلك ممكنا الآن تفاديا لأضرار لا لزوم لها!.
والواقع أن هدف وقف العدوان صعب التحقيق فى الوقت الحالى، بالنظر إلى أسباب موضوعية وذاتية تتصل بالعدو الذى يخوض معركة فى غزة صوَّرها على أنها «وجودية»، بعدما نالت عملية «طوفان الأقصى» من هيبة جيشه ومسّت بما استقرَّ فى وجدان مستوطنيه من الشعور بالأمن وبقوة إسرائيل وتفوقها العسكرى النوعى على الفلسطينيين بمرّات عديدة، وأيضا لوجود عدد كبير من الأسرى لدى المقاومة الذين أصبحوا عنوانا من عناوين استمرار العدوان بالرغم من مخارج التبادل التى قدّمتها المقاومة الفلسطينية.
حسابات التصعيد
ويمكن مناقشة الطرح الآخر الداعى لتصعيد المقاومة على حدود لبنان بالآتى:
إن التصعيد المفتوح فى الظروف الحالية، والمقاومة فى غزة لا تزال فعّالة وتحتفظ بقدرات جيّدة جدا، سيتحول إلى حرب إقليمية مع العدو، وهو بمثابة العمل على إطفاء حريق كبير بإشعال حريق أكبر. وفى حال اندلاع مثل هذه الحرب، ستصبح غزة مثل حالة الضفة الغربية التى يُقتل أبناؤها وتُدمَّر أحياؤها بمعدلات غير مسبوقة من دون ضجيج، بالنظر إلى الاهتمام الأكبر بما يجرى من تدمير فى غزة.
أما الدعوة لوقف العمليات ضد العدو عند الحدود اللبنانية – الفلسطينية فهى تَصدر من جانب من لا يشارك فيها بالفعل ولا يدرك أبعاد ومخاطر ما يجرى فى غزة على لبنان والمنطقة (تكفى الإشارة للاقتراح الجديد من رئيس المجلس الاستيطانى فى المطلة ديفيد أزولاى إلى تهجير سكان غزة إلى مخيمات لبنان). ووقف العمليات هو فى الأساس مطلب إسرائيلى وأمريكى، ومن غير المعقول أن تعمل المقاومة وفق أجندة العدو.
وتنظر مصادر عسكرية أيضا إلى أهمية جبهة الجنوب اللبنانى من زاوية أن العدو اضطر إلى تجزئة جبهة غزة وعدم الدخول إلى كل محاورها دفعة واحدة بسبب افتقاد الزخم البشرى اللازم لشن هجوم شامل عليها، حيث تتوزع القوات فى قطاع غزة والضفة الغربية وشمال فلسطين المحتلة، وهى جميعها جبهات ساخنة على مدار الوقت.
الخلاصة، أن عمليات المقاومة على الجبهة اللبنانية لها أبعاد عسكرية وتعبوية هامة، وهى تواكب بأفق مفتوح التطورات على جبهة غزة انطلاقا من رؤية الترابط الموضوعى بين مصير لبنان ومصير المنطقة فى مواجهة عدو متوحش. ويمكن الاستدلال على أهمية دور هذه الجبهة بصراخ قادة العدو الذين يُهدّدون ويتوعدون لكنهم سرعان ما يتحدثون عن «أولوية الحل الدبلوماسى»!.
النص الأصلي