الاعتقاد الشائع والرأي السائد هو أن القمة الاقتصادية العربية التي انعقدت في الكويت في منتصف يناير قد تحولت إلى قمة سياسية بسبب العدوان الإسرائيلي على غزة، والأولوية القصوى التي كان يلزم أن يحظي بها الشأن الفلسطيني على مواضيع القمة الأصلية الاقتصادية. ولكن في تقديري أن أحداث غزة لم تطغ على برنامج القمة الأصلي، بل أنقذتها من أن تكون قمة بلا نتائج ولا مستقبل.
وقد تابعت الإعداد للقمة الاقتصادية العربية منذ ما قبل العدوان على غزة، بل وقبل الأزمة المالية العالمية، وكان ملفتا أنها قمة جرى الإعداد لها بمنتهى الإخلاص والنشاط من المسئولين عنها، ولكن في غياب تام لأي مقومات لنجاحها.
فإذا بالأزمة المالية الكبرى تجتاح العالم، وتصبح حديث المهتم وغير المهتم بشؤون الاقتصاد، ولكن القمة العربية تبدو كما لو كانت ماضية في طريقها بمعزل عن كل ذلك، بأجندتها التقليدية، وأفكارها القديمة، ورؤى عن التكامل الاقتصادي العربي لا علاقة لها بالواقع الذي نعيشه، مع بعض الإضافات الشكلية في اللحظات الأخيرة حول ضرورة التعاون العربي لمواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية.
فلما وقع العدوان الإسرائيلي على غزة وعلى أهلها، كان طبيعيا أن تتحول القمة من الاقتصاد إلى السياسة (وإن كان حتى هنا فإن الاختراق الحقيقي نحو التهدئة كان قد حدث قبل القمة بيومين في شرم الشيخ لا في الكويت) وأن يأتي هذا الظرف المأسوي لكي ينقذ القمة من فشل محقق.
أما أسباب ما أعتقد أنه كان فشلا محتوما للقمة الاقتصادية فليس ضعف التنظيم، أو قلة الموارد، أو عدم أهمية الموضوع، ولا عدم الاستعداد الكافي له بأوراق ودراسات ومشروعات. كل هذه كانت متوافرة، وبمستوى أفضل من المعتاد. المشكلة أن المعطيات الرئيسية التي طرحت بها قضية التعاون الاقتصادي العربي من خلال قمة الكويت لم تعد مناسبة للعصر، ولا معبرة عن الواقع العربي اليوم.
هناك أولا حقيقة أن اقتصادات بلدان الخليج العربي أصبحت هيكليا مختلفة عن باقي العالم العربي، بطبيعة مواردها، وتركيبتها السكانية، وحجم إنفاقها، ودرجة ارتباطها بالاقتصاد العالمي، وأهمية القطاع المالي والخدمي فيها، بعد قطاع البترول والغاز بالطبع.
هذا الاختلاف الهيكلي لم يعد مجرد ظاهرة اقتصادية، وإنما ترتبت عليه تداعيات اجتماعية وثقافية وسياسية جعلت أولويات واهتمامات التنمية في بلدان الخليج بعيدة تماما عن سائر الدول العربية.
والنتيجة أن الفكرة المثالية بإمكان تحقيق تكامل اقتصادي عربي قد حل محلها في الواقع ما يكاد أن يكون هوية خليجية بديلة ومشروع اقتصادي خليجي بديل له عند مواطنيه مشروعية أكبر، وبالتالي يصعب في الظروف الحالية صهره في مشروع اقتصادي عربي.
هناك من جهة أخرى إشكالية الإصلاح الاقتصادي ومن يقوم به. فالدول العربية الأكبر حجما وسكانا تمر جميعا اليوم وبلا استثناء في فترة حرجة من حيث تحديد دور الدولة في التنمية الاقتصادية، والعلاقة بينها وبين القطاع الخاص، وبالتالي فغير واضح ما إذا كان التعاون العربي الاقتصادي واجبا حكوميا أم نتيجة يمكن أن يصل إليها القطاع الخاص العربي في ظل سياسات حكومية مساندة. وعدم وضوح الإجابات الكافية على هذه الأسئلة، أو حتى عدم طرح الموضوع أصلا للتأمل والنظر في قمة معقودة للنظر في مستقبل الاقتصاد العربي، جعل هناك انفصام تام بين مقررات القمة وبين أدوات تنفيذها.
يرتبط بما سبق أن القمة الاقتصادية العربية قد انعقدت في إطار التنظيم الرسمي المعتاد للقمم السياسية التي تكون الحكومات هي صاحبة القول والفصل فيها، بينما الموضوع الاقتصادي يخص أطرافا آخرين.
صحيح أن أكاديميين قد حضروا القمة، وأن رجال وسيدات أعمال كانوا من نجومها، ولكن هؤلاء حضروا كما يحضر الضيوف المحتفى بهم، وليس باعتبارهم أطرافا في الحوار، بل أن القمة بدت منذ بدايتها كما لو كانت اجتماعا رسميا آخرا من اجتماعات وفعاليات جامعة الدول العربية التي لا تزال تعتمد على وسائل وأدوات دبلوماسية القرن التاسع عشر.
القصد هنا ليس أنها كان ينبغي أن تتحول إلى قمة رجال أعمال، بل كان يجب أن تكون أجندتها ما يخص المستثمرين، ونقابات العمال، ومؤسسات المجتمع المدني، بالإضافة إلى ممثلي الحكومات والأجهزة الرسمية، وأن يكون كل هؤلاء هم من يحدد أولويات العمل.
يتبقي أخيرا أن المتابع للدراسات والاستعدادات للقمة، وللنتائج التي خرجت بها، يجد فيها كل ما يمكن أن يخطر على البال: التعليم، والصحة، والمواصلات، والثروة المعدنية، والثروة السمكية، والزراعة، والسياحة، وتكنولوجيا المعلومات، ومشاريع وخطط للتكامل في كل موضوع، وكأن القمة سنتعقد مرة واحدة في العمر، وأن ما لا يأتي ذكره في بياناتها الختامية صار محكوما عليه بالتجاهل والإهمال للأبد.
هذا النقص في التركيز، وفي اختيار موضوع أو أكثر يكون مدخلا استراتيجيا للتعاون الاقتصادي العربي هو أكثر ما أضر بالقمة وجعلها تشبه غيرها من الفعاليات الاقتصادية العربية، حيث يتم التطرق لكل المواضيع، ولكن لا يحدث تقدم حقيقي في أي منها.
الغريب أن مثال التكامل الاقتصادي الذي لا يفوتنا ذكره دائما هو المثال الأوروبي، ولكننا ننسي مع ذلك أن فكرة الاتحاد الأوروبي الذي صار اليوم واقعا ملموسا ليس فقط للتكامل وإنما للإتحاد السياسي، قد بدأ من فكرة واحدة ومحددة منذ خمسين عاما، هي التعاون في مجال إنتاج الفحم والصلب، وتدرج بشكل طبيعي حتى صار ما هو عليه اليوم.
هناك ضرورة ملحة للتعاون الاقتصادي العربي، ولكن ما نحن بحاجة إليه اليوم هو حوار عصري بين مؤسسات وشركات ونقابات العالم العربي وحكوماته أيضا، وأن يكون في موضوع محدد أو أكثر مما يمكن أن يحدث أثرا على المدي الطويل:
حقوق العاملين المهاجرين، توحيد القوانين والمعايير التجارية، بناء و تطوير شبكات الاتصال والبنية التحتية، الاستثمار في التنمية البشرية، كل واحد من هذه المواضيع بمفرده قادر على أن يكون نواة ومحركا لمزيد من التعاون والتكامل والاستفادة الحقيقية للناس. أما خلط الحابل بالنابل، والحكومي بالخاص، والاستراتيجي بالمرحلي، فما كان يمكن أن يؤتي ثمارا، حتى ولو لم تخطف السياسة أضواء القمة من الاقتصاد.