عندما صدر في سنة 1955 كتاب «في الثقافة المصرية» لعبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم، أثار ضجة كبيرة في أوساط المثقفين المصريين، وتحمسنا له بشدة، نحن صغار المثقفين.
ولكنى عندما أعدت قراءته بعد نحو أربعين عاما من صدوره، دهشت دهشة عظيمة لما وجدت فيه من خفة في معاملة أدباء عظماء، وجرأة عليهم لا يمكن تفسيرها إلا بالحماسة الزائدة عن الحد، والاندفاع غير المبرر (إلا بصغر السن) لتطبيق أفكار عامة هي الأفكار الماركسية، دون اعتبار للاختلافات بين بلد وآخر وبين ثقافة وأخرى.
لا شك عندي في أن أنيس والعالم قد أدركا ذلك مع تقدمهما في السن. فقد قرأت لكل منهما ثناء عاطرا على بعض هؤلاء الذين كانوا يهاجمونهم بقسوة في كتاب «في الثقافة المصرية»، وكتب عبد العظيم أنيس كلاما مؤثرا للغاية عن طه حسين في كتابه الصغير «ذكريات من حياتي، كتاب الهلال يونيو 2002» ، فهو يصف مثلا شعوره وقت سماعه بخبر وفاة طه حسين بقوله: «ثم جاء النذير بالنبأ التعس، نبأ وفاته في أكتوبر عام 1973، وأحسست بغم ثقيل، وتملكتني كآبة دامت أياما.
وعندما مشيت في جنازته التي خرجت من جامعة القاهرة، لم أكن أحس أن مصر فقدت رجلا من كبار رجالها ومفكريها فحسب، وإنما كنت أحس أنني فقدت إنسانا عزيزًا على نفسي، قريبا من قلبي، على الرغم من أنني لم أقابله غير مرات معدودات لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، وعلى الرغم من خلافنا في الفكر».
* * *
ذهب عبد العظيم أنيس إلى لندن في 1954 ليدرس في جامعتها هربا بنفسه من معاملة قاسية من النظام الجديد في مصر، ودون أن يتوقع أنه سيعود من جديد في سعادة بالغة في 1956 ليحاول مرة أخرى أن يكون في خدمة بلده.
كان سبب هذا التحول الكبير هو تأميم قناة السويس في يوليو ١٩٥٦، الذي أشعل حماسنا جميعا، ماركسيين وغير ماركسيين، وتوقعنا كلنا دخول مصر مرحلة جديدة باهرة مليئة بالإنجازات التي طال انتظارها.
كانت فترة سعيدة حقا في حياة مصر، دامت نحو ثلاث سنوات «56 ـ 1958»، كما كانت بلا شك من أسعد سنوات الماركسيين المصريين، فقد سرهم ما أعلنه عبد الناصر بمناسبة تأميم القناة وبعدها، من تحدى الغرب ورفضه للمشروعات الاستعمارية «كمشروع حلف بغداد الذي كانت ترعاه بريطانيا لضمان استمرار نفوذها في المنطقة، وكمشروع أيزنهاور لملء الفراغ في الشرق الأوسط، الذي كان يعنى في الحقيقة حلول النفوذ الأمريكي محل النفوذ البريطاني»
فجأة رأى الماركسيون المصريون في عبد الناصر «زعيما وطنيا يمكن التعويل عليه»، وإن لم يكن بالطبع مؤهلا في نظرهم لقيادة ثورة اشتراكية. ضاعف من آمالهم ما اتخذه عبد الناصر من إجراءات لتأميم البنوك الأجنبية، بعد نجاح تأميمه لقناة السويس، وتبنيه لسياسة التخطيط الاقتصادي (فأنشأ لها لجنة تحولت بعد ذلك إلى وزارة)، ووضع برنامجا طموحا للتصنيع في 1958 (تحول بعد ذلك إلى جزء من خطة خمسيه على نمط الخطط السوفييتية)، ناهيك عن انضمام عبد الناصر لسياسة عدم الانحياز وتبنيه شعار الحياد الإيجابي في أعقاب حضوره لمؤتمر باندونج في 1955.
استجاب عبد الناصر لتحول مشاعر الماركسيين المصريين نحوه، أو حاول الإفادة منها، فسمح لهم بإصدار مجلات تنطق صراحة بلسان الماركسيين «كمجلة الهدف ومجلة كتابات مصرية»، كما سمح للكتاب المتعاطفين مع الماركسية بالتعبير عن أفكارهم اليسارية في الصحف اليومية، كما استعان بماركسيينا الأربعة في الدفاع عن سياسته وفى دعم مؤسساته الاقتصادية الجديدة.
ففضلا عن السماح بعودتهم إلى أماكنهم في الجامعة، نشط أنيس والعالم في الكتابة الصحفية بقصد ترسيخ هذا التحول في اتجاه الاشتراكية، واشترك إبراهيم سعد الدين في دعم وترسيخ التحول إلى سياسة التخطيط، تحت رئاسة رجل فذ آخر هو إبراهيم حلمي عبد الرحمن، بينما ساهم إسماعيل صبري بنشاط فيما سمى «بالمؤسسة الاقتصادية» التي أنشئت لتنظيم إدارة القطاع العام، واشترك معه فيها ذلك الماركسي الفذ الآخر، سمير أمين، الذي لعب دورا مهما فيما بعد في تطوير الفكر الماركسي على نطاق العالم بأسره.
* * *
ما الذي حدث في أواخر سنة 1958 لينهى فجأة شهر العسل القصير هذا بين عبد الناصر والماركسيين؟
ربما كان السبب قيام عبد الكريم قاسم المؤيد بشدة من الاتحاد السوفييتي، بانقلاب في العراق نحّى به عبد السلام عارف الذي قاد ثورة يوليو 1958، واتخاذه موقفا معاديا لعبد الناصر، في نفس الوقت الذي بدأ الاتحاد السوفييتي فيه يهاجم الوحدة بين مصر وسوريا، ويتهم عبد الناصر بالتبعية للأمريكيين.
أم كان لهذا التحول المفاجئ في موقف عبد الناصر من الماركسيين في أواخر 1958 علاقة ببدء تدفق المعونات الغذائية الأمريكية على مصر في نفس السنة؟ هل أراد عبد الناصر أن يؤكد للأمريكيين أن هذا التحول في سياسته الاقتصادية في اتجاه اشتراكي لا يعنى تحول ولاته لصالح الاتحاد السوفييتي؟ أيا كان السبب فقد حدث في أول يوم من سنة 1959، أن قام عبدا لناصر باعتقال عدد كبير من الماركسيين والاشتراكيين، ،كان من بينهم ثلاثة من رجالنا الأربعة الكبار «كان إبراهيم سعد الدين لحسن حظه خارج مصر في ذلك الوقت»، وظل الثلاثة «عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم وإسماعيل صبري» في السجن دون محاكمة أكثر من خمس سنوات، إذ لم يفرج عنهم إلا في مايو 1964، وتعرضوا خلالها لأنواع مختلفة من التعذيب تم توثيقها في المذكرات التي كتبها ونشرها زملاؤهم في السجن.
في مايو 1964 أفرج عنهم جميعا، ولسبب مدهش. ففي هذا الشهر جاء الزعيم السوفييتي خروشوف لافتتاح السد العالي الذي بني بمعونة سوفييتية، والظاهر أن من بين شروط خروشوف للقدوم إلى مصر لهذا الغرض كان شرط الإفراج عن الشيوعيين المعتقلين، ولكن ربما كان السبب الأهم بداية التحول في العلاقة بين عبد الناصر والولايات المتحدة في أعقاب مقتل الرئيس كينيدي في أواخر 1963، هذا التحول الذي بلغ قمته في هجوم إسرائيل على مصر بتأييد كامل من الولايات المتحدة في 1967.
دفع رجالنا الأربعة إذن جزءا غاليا من حياتهم، وهم في قمة قدرتهم على العطاء، ومنعوا من تقديم أي خدمة لبلادهم، نتيجة لتحولات سياسة مصر الخارجية بين الأمريكيين والسوفييت. المدهش مع ذلك أنهم بمجرد خروجهم من السجن أبدوا استعدادهم الكامل لخدمة النظام، طالما رأوا ما يطلب منهم في صالح الاشتراكية. بدوا وكأنهم نسوا تماما ما وقع بهم من ظلم، واعتبروه ثمنا زهيدا لا بأس من دفعه متى كانت الاشتراكية هي النهاية السعيدة، ولكن سرعان ما تبين لهم، بوقوع هزيمة 1967 أن هذا النظام غير قادر في الحقيقة على تحقيق آمالهم، ثم تأكد لهم هذا بعد سنوات قليلة من اعتلاء السادات الحكم. ولكن هذا يحتاج بالطبع إلى تفصيل.