فى الأسبوع الماضى قرأت ثلاث مقالات جميلة لثلاثة من كتابى المفضلين: علاء الأسوانى وأسامة غريب وسحر الموجى. المقالات الثلاث نشرت فى صحف مختلفة: الشروق والدستور والمصرى اليوم، وكلها تتعلق بالتدين فى مصر ولكن من زوايا مختلفة.
علاء الأسوانى يتساءل: هل تزوير الانتخابات من الكبائر؟ أى من المعاصى الكبرى التى تستوجب عقاب الله فى الدنيا والآخرة؟ ويصل إلى أنه فعلا من الكبائر، إذ برجعوه إلى كتب الفقه وجد أن من الكبائر، الشهادة الزور، أى جهر المرء بغير الحقيقة مع علمه بذلك، مما يترتب عليه ضرر. وتزوير الانتخابات من قبيل إعلان عكس الحقيقة مع العلم بذلك، والضرر يصيب الأمة بأسرها.
علاء الأسوانى يريد بالطبع أن يبين، لمن لم يعلم بعد، أن الفساد فى السياسة ينطوى على خروج عن الدين. فإن لم يشعر المرء بالغضب لما يحدثه الفساد فى السياسة من ضرر بمصالح الأمة، فليغضب لدينه.
ومقالة أسامة غريب تتكلم أيضا عن العلاقة بين التدين والفساد السياسى، ولكن فى محاولة بعض رجال الدين، من المسلمين والأقباط على السواء، ارتداء رداء الدين للتغطية على فساد سياسى، فيقولون فى خطبهم وتصريحاتهم بوجوب الطاعة لأولى الأمر، أى للحكام، مهما بلغ فسادهم، ويصورون هذه الطاعة وكأنها واجب دينى، وهم لا يبتغون بذلك إلا الحصول على رضا السلطان، وصولا إلى تحقيق مآرب دنيوية.
علاء الأسوانى يتكلم عن الذين يمارسون الشعائر الدينية ولكنهم لا يتورعون عن ارتكاب كبيرة من الكبائر، هى تزوير الانتخابات. وأسامة غريب يتكلم عن الذين يحاولون اقناعنا بأن ارتكاب كبيرة من الكبائر هى مما يرضى عنه الدين.
أما سحر الموجى فتتكلم عن الذين يمارسون الشعائر الدينية على نحو يتعارض مع المصلحة العامة، ويحاولون اقناعنا بأن ممارسة هذه الشعائر على هذا النحو الذى يمارسونها به، أهم من تحقيق مصالح الناس، وأنه ليس من حق أحد أن يطالب بحق من حقوقه البديهية إذا كان هذا يتعارض مع رغبة موظف عمومى أو غيره فى تأدية هذه الشعائر فى أى وقت يريده، وعلى أى نحو يخطر بباله.
وتضرب سحر الموجى لذلك أمثلة نصادفها كلنا كل يوم، كقيام بعض المصلين بالصلاة فى وسط الشارع مما قد يمنع مرور أى شخص آخر به، أو كترك طبيب لمستشفاه ومرضاه للاشتراك فى صلاة التراويح فى رمضان، أو سيارة الإسعاف التى يرفض سائقها أن يتحرك فى وقت الصلاة... الخ.
الكتاب الثلاثة ليسوا فقط كتابا موهوبين، اثبتوا موهبتهم فى أعمال فنية ممتازة وحازت اعجاب الناس، ولكنهم يشتركون أيضا فى صفة أخرى مهمة، وهى رفضهم البات لنوع مزيف من التدين، وهو تظاهر المرء بأنه لا يبتغى إلا رضا الله عنه، بينما هو لا يبغى فى الحقيقة إلا تحقيق مصلحة خاصة، حتى لو تعارضت هذه المصلحة الخاصة تعارضا صارخا مع مصالح الناس.
نعم، ما أكثر الزيف فى حياتنا الاجتماعية. لدينا تدين زائف، ولكن لدينا أيضا تنوير زائف، وأقصد بالتنوير الزائف التظاهر بالدفاع عن العقلانية وتحكيم العقل، تحقيقا لمصالح شخصية، حتى لو تعارضت مع الصالح العام. فلدينا من المثقفين ممن ليس لهم هم إلا ادعاء مكافحة «التطرف الدينى»، ولكنهم يقدمون هذا الادعاء قربانا للسلطة، مع أن أصحاب السلطة قد يكونون أقل الناس عقلانية وأبعدهم عن الاستنارة.
نحن نجد هؤلاء من مدعى التنوير، بين أنصار اليمين واليسار على السواء، فبعضهم يدعى الدفاع عن مصالح الفقراء، والآخرون يدعون أنهم من أنصار الانفتاح على الغرب، ولكنهم كلهم يشتركون فى شىء واحد: المتاجرة بالعقلانية كما يتاجر الآخرون بالدين. والهدف فى الحقيقة واحد فى الحالتين: اكتساب رضا السلطة تحقيقا لمطامع خاصة.
نعم لدينا هؤلاء وأولئك، ولكن من حسن الحظ أن لدينا أمثلة رائعة لنوع رائع من الكتاب، منهم أصحاب الأسماء الثلاثة الذين بدأت بهم مقالى، لا يتاجرون لا بالدين ولا بالعقلانية، ولكن لديهم أيضا درجة عالية من الحكمة ومن احترام تراثهم الدينى والشعبى. يمارسون الحكمة دون ادعاء، ويستلهمون تراث شعبهم فى أعمالهم الفنية، ولا يسمحون لأحد بالسخرية منه. وفى رأيى أن هذا النوع الرائع من الكتاب المصريين آخذ فى التزايد.. أليس فى هذا سبب آخر للتفاؤل بالمستقبل؟