غادرت بعثة صندوق النقد الدولى القاهرة فى الاسبوع الماضى بعد ان شغلت نفسها والبلد معها بموضوع القرض وعادت أدراجها دون الإعلان عن اتفاق مع الحكومة المصرية، ودون ان نفهم إن كان معنى ذلك الغاء الموضوع برمته ام تأجيله لأجل غير مسمى ام مجرد ارجاء التفاوض بشأنه لحين زيارة الوفد المصرى للعاصمة الأمريكية هذا الاسبوع لحضور الاجتماع السنوى للصندوق والبنك الدوليين.
زيارة وفد الصندوق الأخيرة للقاهرة لم تكن الاولى بل سبقتها زيارات ومفاوضات عديدة. ولكن ما جعلها مختلفة هذه المرة هو ان الوفد حرص على ان يلتقى بأحزاب المعارضة للتحاور معها بشأن القرض (وقيمته أربعة مليارات وثمانمائة مليون دولار أمريكى) الذى يهدف لمساندة ميزان المدفوعات والمشروط بالتزام الحكومة المصرية بتطبيق برنامج للإصلاح الاقتصادى يستهدف الحد من العجز المنفلت للموازنة العامة. وفى النهاية تراوح موقف الاحزاب التى التقى بها وفد الصندوق بين رفض الاقتراض من الاصل وبين القبول من حيث المبدأ ولكن بتحفظات حول ضرورة إتاحة المزيد من المعلومات بشأن القرض والبرنامج المرتبط به واستخداماته والرقابة عليه.
ثم تغير الموقف بالإعلان عن الاتفاق مع حكومات قطر وليبيا وتركيا على ان تقوم بتقديم ودائع تبلغ قيمتها اجمالا نحو ستة مليارات دولار أمريكى، الامر الذى أعطى الحكومة المصرية مساحة للتنفس بعد ان صار عندها من السيولة النقدية ــ أو على الاقل الوعد بها ــ ما يخفف من الضغط عليها لبضعة اشهر، كما ساد شعور عام فى البلد بأن الأشقاء العرب والمسلمين قد تدخلوا لإنقاذ مصر فى اللحظة الاخيرة من ازمة طاحنة ومن الاضطرار لقبول شروط وبرنامج صندوق النقد الدولى.
ولكن مع كل تقديرى للتعاون والتضامن الذى أبداه الأشقاء من قطر وليبيا وتركيا فإن موقف الرأى العام والإعلام المصرى والأحزاب السياسية هو ما يستدعى التوقف والتساؤل، اذ لماذا يكون الرأى العام قلقا ومتحفظا إلى هذا الحد حينما يتعلق الامر بالاقتراض من المؤسسات المالية الدولية ــ وله الحق فى ذلك ــ ولا تثور لديه ذات التحفظات والمخاوف بالنسبة للودائع الواردة من الأشقاء العرب ومن غيرهم؟ الاجابة فى تقديرى ترجع إلى ثلاثة أخطاء سائدة فى النقاش الدائر حول الاقتراض من الخارج:
الخطأ الأول هو الاعتقاد بأن «الوديعة» التى يقدمها أى بلد ويتم إيداعها لدى البنك المركزى المصرى تختلف جذريا عن الاقتراض أو انها «اخف» فيما ترتبه من التزامات، بينما كلاهما فى جوهره واحد. فالوديعة هى مبلغ من المال يودعه البنك المركزى الاجنبى لدى البنك المركزى المصرى ويتقاضى عليه فائدة ويستطيع ان يسترده فى أى وقت وفقا لشروط الوديعة. وهذا هو جوهر القرض أيضا ولو اختلف الشكل القانونى. ولكن لأن الوديعة يتم الاحتفاظ بها بالعملة الاجنبية لدى البنك المركزى فإنه لا يتم عرضها على البرلمان مثلما يتم عرض القروض الخارجية. ولكن فى الحالتين فإن التزاما دوليا يترتب على الاقتصاد القومى ويلزم سداده مستقبلا، ولذلك فلا يوجد ما يدعو لاعتبار الوديعة اقل وطأة من القروض الخارجية أو مختلفة جذريا فى اثرها الاقتصادى.
الخطأ الثانى هو الاعتقاد بأن الوديعة المقدمة من بلد شقيق لا تكلفنا شيئا، بينما القرض تحتسب عليه فوائد تتحملها الخزانة العامة مستقبلا. ووجه الخطأ هنا ان الودائع، بحسب الاصل، يحتسب عليها ايضا فائدة مثلها مثل القروض تماما، بل عادة ما يكون سعر الفائدة عليها اعلى لارتباطه بأسعار الفائدة التجارية فى الاسواق العالمية، بينما العائد السنوى على القروض المقدمة من المؤسسات المالية الدولية يكون اقل بكثير (للمقارنة فإن سعر العائد المقترح عند الاقتراض من الصندوق هو 1.1٪ سنويا على الدولار الامريكى، بينما العائد على الوديعة القطرية حسبما فهمت يتجاوز ٤٪ سنويا). الودائع إذن، شأنها شأن القروض، لها تكلفة وفى الغالب فإنها تكون اعلى من تكلفة التمويل الممنوح من مؤسسات التمويل الدولية.
وأخيرا فإن الخطأ الثالث يتعلق بافتراض ان الاقتراض من المؤسسات الدولية يكون مشروطا بتطبيق برامج اقتصادية محددة بينما الودائع من الدول الشقيقة تأتى هكذا من باب المحبة والأخوة والشهامة ولا تنطوى على أية شروط وبالتالى فهى تحافظ على استقلال إرادتنا الوطنية. وهنا مكمن الخطر الحقيقى. فلا أظن ان هناك قروضا أو ودائع بلا شروط على الاطلاق ولو كانت واردة من اقرب الأصدقاء وأعز الحلفاء. كل قرض وكل وديعة لابد وان يصاحبه طلب أو ثمن أو شرط أو على الاقل تفاهم. ولكن بينما ان شروط صندوق النقد الدولى تكون إلى حد كبير معروفة أو يمكن توقعها لأنها تشبه ما يجرى تطبيقه فى كل بلدان العالم ومقتصرة على الجانب الاقتصادى وحده، فإن الشروط والتفاهمات التى تأتى مصاحبة للودائع من الدول الشقيقة لا تكون معروفة ولا محددة النطاق وبالتالى فقد لا تقتصر على الجوانب الاقتصادية فقط بل يمكن ان تتجاوزها إلى مواضيع واتفاقات لا نعلم عنها شيئا.
ما القصد من كل هذا؟
ليس الغرض مما تقدم هو الدعوة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولى تحت أى ظرف ووفقا لأية شروط، فالمجتمع من حقه ان يطمئن إلى أحكام القرض ومكونات البرنامج الاقتصادى الجارى الاتفاق عليه قبل ان يوافق أو يرفض. ولكن من جهة اخرى، فإنه يجب علينا أيضا إدراك ان الودائع من الدول الاجنبية ــ حتى تلك التى توصف بأنها شقيقة ــ لا تختلف فى جوهرها عن القروض، وتأتى بتكلفة اكبر من الاقتراض الدولى، وقد تنطوى على شروط واتفاقات لا تخضع لذات الشفافية والرقابة الشعبية، وبالتالى فيجب تطبيق ذات معايير الحذر والحيطة بالنسبة لها وعدم اعتبارها منحة أو هدية لا تستدعى على الاقل السؤال والتمحيص والتدقيق.
نحن فى أزمة اقتصادية حقيقية وبحاجة لسيولة فى الأجل القصير والبدائل المتاحة أمامنا قليلة، ولكن علينا تناول هذه البدائل القليلة بمعايير واحدة ومتسقة. من حق المجتمع ومن واجبه ان يطرح ذات التساؤلات المشروعة حول المفاضلة بين القروض والودائع لأن لا شىء فى هذا العالم يأتى بالمجان ولكل من البديلين تكلفته.