قد يبدو العنوان غريبا، لكن البروفيسور تشونج جى كون أستاذ اللغة العربية فى جامعة بكين ورئيس جمعية دراسات الأدب العربى فى الصين والذى التقيته فى الأسبوع الماضى سيروى لكم القصة، يقول البرفيسور «صاعد» وهو الاسم العربى الذى اختاره لنفسه وهذه عادة لدى الصينيين حيث يختارون اسما ثانيا لهم باللغة التى يتحدثونها فعلى سبيل المثال حينما ذهبت للسفارة الصينية فى قطر وجدت نائب رئيس البعثة الذى يتكلم العربية يختار لنفسه اسما عربيا هو «باسم» رغم أنه يحمل اسما صينيا آخر، والذى يتحدث الإنجليزية منهم يختار اسما غربيا على سبيل المثال «جوليا» أو «جون» أو غير ذلك، يقول البروفيسور «صاعد» الذى يزيد عمره الآن على سبعين عاما، أحببت اللغة العربية منذ نعومة أظفارى بعدما قرأت بعض القصص المترجمة للغة الصينية فى كتاب «ألف ليلة وليلة» وهالنى هذا العالم الحالم ولغته وأهله، وكانت أول جملة عربية نطقتها حينما وقفت عام 1956 أمام السفارة المصرية فى بكين خلال العدوان الثلاثى على مصر لأهتف لمصر ضد العدوان وأقول «تحيا مصر ويسقط الاستعمار » التحقت بعدها بقسم اللغة العربية فى جامعة بكين وتخرجت فى الجامعة فى العام 1961، وعشقت اللغة والأدب العربى وترجمت من العربية إلى الصينية من الشعر القديم المعلقات السبع ومختارات من الشعر العربى القديم حيث عشق الصينيون شعر الغزل والروح الجميلة فى الشعر والأدب العربى، وكتبت كتابا من مجلدين عن تاريخ الأدب العربى وترجمت الكتاب الذى جذبنى لتعلم اللغة العربية ألف ليلة وليلة، ومن الشعر الحديث ترجمت لنزار قبانى وبدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتى وأحمد شوقى ومحمود سامى باشا البارودى ومختارات من شعر جبران خليل جبران وغيرهم، كما ترجمت للصينية رواية «فى بيتنا رجل» لإحسان عبد القدوس و«ميرامار» لنجيب محفوظ وغيرهم، وقد أدى عشقى وحبى للغة أن أسعى بعد الحصول على درجة الدكتوراه وعملى أستاذا فى جامعة بكين أن أكمل بعض دراساتى فى اللغة فى جامعة القاهرة، وبالفعل سافرت إلى القاهرة فى العام 1978 وبقيت إلى العام 1980، وكانت المفاجأة أن بهرتنى القاهرة آنذاك، فقد وجدت مدينة جميلة وبها مبانٍ حديثة وشوارع ممهدة تمتلئ بالحياة والبهجة بينما بكين عاصمة الصين التى جئت منها كانت مدينة مهترئة والفقر ينهش فى أرجائها، وكان أستاذ الجامعة فى مصر آنذاك يعتبر ملكا مقارنة بأستاذ الجامعة فى الصين، فقد كان أقصى راتب يمكن أن يتقاضاه أستاذ الجامعة فى الصين آنذاك لا يزيد على ما يوازى مائة دولار أمريكى أو أقل، وكان الناس يسكنون فى شقق مشتركة كل عائلة فى غرفة والحمام مشترك خارج الشقة، أما أستاذ الجامعة فى مصر فقد كان لديه سكنه الخاص وسيارته الخاصة وراتب جيد ومكانة مميزة فى المجتمع، وكنت أتمنى آنذاك أن تصبح الصين مثل مصر، فقد كانت مصر بالنسبة للصين دولة متقدمة.
قاطعت البروفيسور صاعد وقلت له: عفوا عفوا ماذا تقول؟ أنا لا أكاد أصدق هكذا كانت مصر فى نهاية السبعينيات من القرن الماضى أى قبل حوالى ثلاثين عاما أفضل من بكين عاصمة الصين، قال: نعم... نعم... كانت القاهرة أفضل من بكين بكثير، وكان وضع السكان فى القاهرة أفضل من وضع السكان فى بكين أقول لك كان راتب أستاذ الجامعة فى بكين أقل من مائة دولار ولا يستطيع أن يشترى سيارة أو حتى يسكن فى شقة جيدة، أنا كنت أستاذا وكل ما أملكه هو دراجة أذهب عليها إلى الجامعة شأنى شأن الطلبة، ولا أملك شقة مثل الأساتذة زملائى فى جامعة القاهرة، وأعيش فقيرا شأنى شأن أغلبية الطبقة المتعلمة فى الصين التى كانت بنيتها التحتية مهترئة والحياة فيها قاسية والفقر ينهش فى معظم أوساطها حتى أساتذة الجامعات، صمت البروفيسور تشونج جى كون حينما وجد الأسى والحزن يملأ ملامح وجهى ثم مد يده إلى كوب الشاى الأخضر وارتشف منه رشفة ثم عاد إلى صمته فكسرت الصمت بشغف قائلا: وماذا بعد؟ نكمل غدا.