عندما تخرجت فى كلية الهندسة جامعة القاهرة منذ أمد طويل وبدأت العمل فى الماجستير أثناء تعيينى كمعيد بدأت أيضا التفكير فى مرحلة الدكتوراه والسفر للخارج للدراسة وقد كنت عقدت العزم على التخصص فى تصميم الحاسبات بعكس أغلب الناس فى ذاك الوقت فى مصر وحتى فى وقتنا هذا الذين يرغبون فى التخصص فى فرع من فروع البرمجيات. السؤال المهم فى ذلك الوقت هو اختيار الدولة والجامعة، كان الاختيار سهلا لأن أمريكا كانت متقدمة جدا فى أغلب تخصصات الكمبيوتر وأية نظرة على تصنيف الجامعات على مستوى العالم ستكشف ذلك بوضوح. مقالنا اليوم عن الجامعات فى أمريكا ولماذا هى متقدمة عن أغلب جامعات العالم.
إذا نظرنا فى ترتيب الجامعات على مستوى العالم فى كل التخصصات العلمية لوجدنا أن ثلاثة أرباع العشرة الأوائل من أمريكا وسنجد قرابة تلك النسبة فى العشرين بل وفى الخمسين الأوائل، والغريب أن هناك عدة تصنيفات للجامعات وكل تصنيف له طريقته والعوامل التى يستخدمها لترتيب الجامعات وبالرغم من ذلك تحتل الجامعات الأمريكية أغلب المراكز الأولى فى تلك التصنيفات كلها، طبعا هناك بعض الجامعات التى تدرس تلك العوامل وتحاول التلاعب فى أرقامها (ليس بالضرورة تقديم أرقام غير صحيحة) حتى تحصل على تصنيف عال مثل ما حدث لجامعة كولومبيا التى قفزت من المركز ال18 إلى المركز الثانى فى تصنيف (US News) بهذه الطريقة، لكن وبالرغم من ذلك فالجامعات الأمريكية تحتل أغلب المراكز المتقدمة دون الحاجة إلى أية تلاعب فلماذا؟ إذا نظرنا إلى الجامعات الأمريكية نظرة متأنية وحاولنا الوصول إلى أسباب تقدمها سنجد الآتى:
أولا: الطلاب فى تلك الجامعات من جنسيات متباينة، فأمريكا ما تزال قبلة أغلب من يريد الدراسة فى التخصصات العلمية من أغلب دول العالم، هذه الجنسيات المختلفة تعطى دفعة كبيرة للبحث العلمى والدراسة الأكاديمية بعامة لأن كل جنسية تتميز بميزات مختلفة عن الجنسيات الأخرى وهذه الاختلاف يؤدى إلى طريقة تفكير مختلفة فى حل المشكلات، فعندما يكون هناك فريق علمى من أشخاص مختلفين فى طريقة التفكير فسينظر كل منهم للمشكلة العلمية المراد حلها بطريقة مختلفة ويقترح حلولا مختلفة عن الآخرين مما يؤدى إلى نظرة أشمل على المشكلة وطريقة حلها.
ثانيا: تهتم الشركات الكبيرة ومؤسسات حكومية عديدة بالجامعات عن طريق تمويل ليس فقط البحث العلمى، بل وتمويل مجهودات تحديث المناهج الدراسية ومنح طلاب البكالوريوس والدراسات العليا فرص التدريب الصيفى، هذه الترابط بين أضلاع المثلث (الجامعة والحكومة والصناعة) هو ما يؤدى إلى التقدم العلمى والتطور التكنولوجى، أى نقص فى أضلاع هذا المثلث تودى إلى بطء التطور وضياع الكثير من الفرص لإمداد سوق العمل بخريجين متميزين خاصة أننا فى عصر ستختفى فيه أغلب الأعمال المعتمدة على الجهد البدنى والتفكير البسيط.
ثالثا: المنافسة بين الجامعات الأمريكية يخلق رغبة عارمة عند كل جامعة فى التقدم، التنافس يكون فى تعيين الأساتذة المتميزين والطلبة الممتازين والحصول على تمويل من الشركات والمؤسسات الحكومية. وقد بدأ هذا التنافس منذ الحرب العالمية الثانية، نتيجة لممارسات هتلر فقد هاجر الكثير من العلماء الكبار من أوروبا إلى أمريكا وبدأوا مجموعات بحثية فى الجامعات الأمريكية، ومن هنا بدأت النهضة فى الجامعات وبدأ التنافس بينها. كى تجتذب جامعة ما أستاذا متميزا فهى تغريه بالمال والمعامل المتقدمة إلخ، وكى تمتلك الجامعة ما تغرى به الأساتذة عليها الحصول على تمويل كبير ولا يتأتى ذلك إلا عن طريق البحث العلمى الذى يجتذب الشركات والمؤسسات العلمية وعن طريق التعليم المتميز الذى يجتذب الطلاب.
وهناك قانون غير مكتوب فى الجامعات الأمريكية وهى أنه لا يتم تعيين الطالب الحاصل على درجة الدكتوراه كأستاذ فى نفس جامعته، بل عليه الذهاب لجامعة أخرى، والسبب أنه إذا استمر فى نفس جامعته سيظل يعمل مع مشرفه أو مع نفس الأساتذة فى قسمه وبنفس طريقة التفكير والعمل، لكن عندما يذهب إلى جامعة أخرى فهذا سيعطيه فرصة لتجربة طرق جديدة والتعامل مع باحثين مختلفين.
أعتقد أننا من الممكن أن نستفيد من تلك العوامل عندنا فى مصر لتحسين جامعاتنا، فمثلا يجب أن يكون هناك ترابط وثيق بين الشركات الكبرى والمؤسسات البحثية والجامعات ليس فقط فى البحث العلمى، ولكن أيضا فى وضع المناهج التعليمية فى جميع المراحل الجامعية، أيضا إنشاء مجموعات بحثية من طلاب وأساتذة من جامعات مختلفة سيساهم فى خلق وجهات نظر مختلفة وحلول أشمل للمشكلات العلمية كما أشرنا. التعليم أمن قومى والجامعات لها دور كبير فى ذلك.