عندما ذهبت بالأمس لتقديم واجب العزاء، فى وفاة المخرجة السينمائية الموهوبة، نبيهة لطفى، كنت أتوقع أن أرى عددا كبيرا من مشاهير الفن السينمائى فى مصر، وربما أيضا عددا من الكتاب والصحفيين الذين أعرف قوة علاقتهم بها، وتقديرهم لها. ولكننى لم أكن أتوقع أن أرى فى العزاء، هذا العدد ممن خُيل لى أنهم قد يكونون كل عظماء مصر. إننى لا استخدم وصف «العظماء» هنا بمعنى كبار السياسيين أو مشاهير حياتنا الثقافية، بل أقصد الموهوبين من الفنانين المصريين والكتاب والصحفيين والمثقفين.
نبيهة لطفى لبنانية ولدت فى صيدا، تلك المدينة الجميلة والعريقة فى جنوب لبنان. ولكنها لسبب أو آخر جاءت للدراسة فى كلية الآداب بجامعة القاهرة، ثم اكتشفت حبها للسينما، فالتحقت بمعهد السينما فى القاهرة لدراسة الإخراج. ولأنها كانت فتاة جميلة وذكية وظريفة، لا تخشى من مخالطة الرجال والاشتراك فى حواراتهم، والتعبير عن رأيها الخاص إذا اختلفت معهم، وقع فى غرامها تقريبا كل من عرفها عن قرب من المثقفين المصريين، فى وقت كان يندر فيه أن يصادفوا فى الجامعة أو المجتمع المصرى فتاة لها كل هذه الصفات.
وقعت هى أيضا فى الحب، ولكن هذا الرجل السعيد (على مختار) لم يكن أديبا ولا صحفيا، بل كان طبيبا حديث التخرج، بل لعله كان فى سنواته الأخيرة فى كلية الطب عندما تعرف على نبيهة. كان مثلها شجاعا وذكيا وظريفا، فضلا عن اهتمامه مثلها بالشأن العام، فالتحق مبكرا جدا بحركة سياسية ترمى إلى نشر فكرة القومية العربية وتحقيق الوحدة العربية.
كان على مختار صديقا لى منذ كنا فى الثالثة عشر من العمر، واستمر صديقا لى حتى وفاته المبكرة وهو فى الثانية والخمسين. وكنت دائما أغبطه على جرأته فى السياسة وفى الحب على السواء. فقد فاجأنا جميعا بتقدمه لخطبة نبيهة لطفى ثم الزواج منها ونحن لم نكد نبدأ حياتنا الوظيفية. لابد أن هذا الإعجاب بتصرفه، المقترن ببعض الغيرة، قد اعترانا جميعا ممن يعرفونه ويعرفون نبيهة، وعلى الأخص ناقدا أدبيا شابا، أكبر منا بسنتين أو ثلاث، وكان قد تقدم لخطبة نبيهة فاعتذرت، وفضلت عليه على مختار. كان من النتائج الطريفة لذلك، والتى لا يمكن نسيانها، أن شاعرا مصريا فى مثل سننا، وكان صديقا مقربا للناقد الحزين، أحزنه ما لقيه صديقه من رفض، فكتب قصيدة نشرت فى مجلة الآداب البيروتية (التى كانت وقتها ملجأ للأدباء المصريين الموهوبين الذين لم يجدوا فى بداية حياتهم منفذا لنشر إبداعاتهم فى مصر). كانت القصيدة بعنوان(الأميرة والفتى الذى يكلم المساء). أما الأميرة فهى نبيهة لطفى، وأما الفتى الذى يكلم المساء فهو صاحبنا الناقد الأوروبى الذى لم تقبل نبيهة الزواج منه.
كانت قصيدة لا بأس بها (كما أتذكرها الآن)، ولكنها كانت قاسية بلا مبرر على «الأميرة»، التى غضبت غضبا شديدا، ولم تتردد فى الذهاب إلى الشاعر، وهو جالس فى بوفيه كلية الآداب (كما سمعنا وقتها) وعبرت له بمنتهى الصراحة، عن رأيها فيه وفى صاحبه. (مما أتذكره الآن بتأثر أن هذا الناقد الأدبى بعد سنوات كثيرة من هذه الحادثة، كتب مقالا جميلا فى رثاء على مختار عبر فيه عن حزن حقيقى لوفاته المبكرة، وكان قد مر من الزمن ما يكفى لنسيان كل شىء).
* * *
تم الزواج وأنجب الزوجان السعيدان طفلين تتبَعت نموهما وتطور حياتهما، بحكم صداقتى للأب والأم، منذ أن كانا طفلين رضيعين وحتى اليوم. ورث الطفلان وسامة الأم والأب، ولكنهما ورثا أيضا صفاتهما الأخرى الجميلة، وفى مقدمتها الشجاعة، والقدرة على تحدى الرأى العام إذا لم يقتنعا بصوابه. كان الفن (أيا كان تعريفنا له) يجرى فى عروق الأب والأم، فهوى الأب الرسم، وعشقت الأم، كما سبق أن ذكرت، الإخراج السينمائى، فإذا بالفن يجرى أيضا فى عروق الطفلين، فأنشأت البنت (منى) مكتبة جميلة، ثم أنشأت دارا للنشر باسم أبيها فى أعقاب وفاته ونشرت من خلالها بعض كتاباته، ثم قامت بإدارة بعض من أهم المكتبات فى القاهرة. ولمع الابن (ياسر) كعازف للبيانو فى مصر وألمانيا.
* * *
ظهر حب نبيهة لطفى للحياة فى أنها لم تتوقف عن العمل والإنتاج سواء فى حياة زوجها أو بعد وفاته، فأخرجت عددا من الأفلام التسجيلية الجميلة، رأيت بعضها فى القاهرة، وفى احتفال خاص بأعمالها فى بيروت. وكانت تحمل حبا عظيما للفنانة المصرية تحية كاريوكا والمخرج السينمائى شادى بعدالسلام، فقررت أن تنتج فيلمين عنهما، فرغت من ثانيهما قبل وفاتها بوقت قصير.
جاءت نبيهة لطفى إلى بيتى، ومعها المصورون والكاميرات لتسجيل حديث قصير عن تحية كاريوكا، بعد أن قرأت وأعجبت بفصل كنت قد كتبته عنها فى كتاب لى. كنت مفتونا مثلها بتحية كاريوكا، بجمالها وحياتها وشجاعتها الشخصية، واشتراكها، وهى الراقصة والممثلة، فى الحياة السياسية المصرية بما فى ذلك الكفاح ضد الاحتلال الإنجليزى. كانت نبيهة لطفى قد حالفها الحظ بالتعرف على تحية كاريكا شخصيا، وحكت لى القصة الطريفة الآتية.
كان إدوارد سعيد، الكاتب الشهير، مغرما هو أيضا، فى مطلع شبابه، بتحية كاريوكا، وكان يذهب لمشاهدة رقصاتها فى كازينو بديعة (أى بديعة مصابنى) الذى كان يقوم حينئذ بجوار كوبرى الجلاء (الذى كان يسمى وقتها أيضا بكوبرى بديعة). وكان إدوارد سعيد يعرف نبيهة لطفى، ويعرف قربها من تحية كاريوكا، فطلب منها بعد أن تقدمت به السن، أن تأخذه لزيارة تحية فى بيتها، وكانت تحية قد تقدمت بها السن، هى الأخرى، وزاد وزنها بشدة، وكأن إدوارد سعيد كان يريد أن يرى ما فعله الزمن بها وبشعوره نحوها.
حكت لى نبيهة عن هذه الزيارة فذكرت أن إدوارد سعيد سأل تحية عن عدد زيجاتها (إذ كانت مشهورة بكثرتها)، فلم يعجب تحية السؤال وانفجرت صائحة بأنها إذا كانت قد أحبت رجلا تزوجته، فما هو بالضبط الخطأ فى ذلك؟
* * *
كانت نبيهة لطفى قد اجتمعت فيها بعض العلل فى السنوات الأخيرة، مما جعلنى أعتقد أن النهاية قد تكون قريبة. ومع ذلك فقد كانت كلما رأيتها، ضحوكا دائما، ساخرة دائما، من صغار الناس وغرائبهم، كما كانت سخية دائما فيما تقيمه لنا من مآدب، وكأنها كانت تمارس الفن فى هذا أيضا.
اتصلت بى اختها «مها» قبل وفاة نبيهة بثلاثة أو أربعة أيام، لتخبرنى بأنها فى بيت نبيهة وأنها ترغب فى التحدث إلى. شعرت من ضعف صوتها بأن النهاية قد تكون قريبة جدا، وربما كان هذا مما دفعها إلى مكالمتى. ولكنها لم تنس أن تخبرنى بأن ابنها ياسر سيعزف فى المسرح الكبير للأوبرا (يوم السبت ٢٧ يونيو) فى كونشرتو بيتهوفن للبيانو والكمان والتشيلو، حيث يقوم هو بالعزف على البيانو. كانت فخورة بذلك بالطبع، ونبهت على بضرورة حضورى الحفل، ووعدت بتذكيرى بالأمر مرة أخرى قبيل حدوثه. ولكننى سمعت بوفاتها قبل ذلك.