من سيدى بشر إلى عزبة محسن - عاطف معتمد - بوابة الشروق
السبت 7 سبتمبر 2024 2:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من سيدى بشر إلى عزبة محسن

نشر فى : الثلاثاء 23 يوليه 2024 - 10:10 م | آخر تحديث : الثلاثاء 23 يوليه 2024 - 10:10 م

من الإسكندرية ولمسافة 500 كم حتى السلوم على حدود ليبيا عشرات المواقع التى تبدأ بلقب سيدى (من أول سيدى كرير مرورًا بسيدى عبد الرحمن ووصولًا إلى سيدى برانى). فيما وراء السلوم ولآلاف الكيلومترات الأخرى حتى المغرب مئات أخرى من مواقع تبدأ بسيدى: ساحل البحر المتوسط الجنوبى منذ العصر الإسلامى تحول إلى ساحل متدين للغاية، وقد كان كذلك طيلة عصوره وخاصة فى العصر المسيحى.
فى وسط ساحل الإسكندرية لدينا موقع شهير اسمه «سان استيفانو». يمكنك أن تعتبر «سان» هى المقابل المسيحى للكلمة العربية «سيدى». تشير المراجع المسيحية إلى أن أسطفان (اسطفانوس فى الكنيسة المصرية) كان أول شهيد فى المسيحية، عذبه الرومان وأصدروا عليه حكمًا بالموت رجمًا بالحجارة فى عام 34 ميلادية (وهو بعد لم يكمل من العمر 29 عامًا).

خريطة لأهم المواقع المذكورة في المقال


فى بضع مئات من الأمتار حين تتجه شرقا يقابلك مسجد «سيدى بشر» وهو موقع فريد عجيب. يكاد يكون هو المسجد الوحيد المتربع فوق تل مرتفع يكشف البحر. اصطنعت مساجد الإسكندرية الأخرى لنفسها طابقا سفليا كاملا وسلالم مرتفعة يصعد منها المصلون إلى طابق علوى للصلاة، فى محاولة لتقليد طبيعة الإسكندرية القديمة الأصلية التى بنيت فى الأساس فوق تلال مرتفعة.
هذا التقليد الاصطناعى تجده حاضرا مثلا فى مسجد شهير مثل «القائد إبراهيم» غربا أو مسجد «المندرة» شرقا. أما هنا فإن الموقع يستمد أهميته من توسطه الساحل مشرفا على البحر اللازوردى، فوق آخر تلال باقية من المدينة.
يمكننى اعتبار التل الذى أقيم عليه مسجد «سيدى بشر» درسا جغرافيا للأطفال. فحين نصعد هذا التل الصغير وندخل المسجد نستقبل «القبلة» التى جاء منها اسم الوجه «القبلى» حيث الصعيد، أى إلى الجنوب، ومن خلفه مكة المكرمة الواقعة إلى الجنوب (الشرقى) من الإسكندرية، لكننا ونحن نستقبل القبلة يكون البحر من خلفنا حيث التعبير النموذجى لمفهوم «الوجه البحرى» أى إلى الشمال.
لا أشك أن النحات الكبير محمود مختار استحضر هذه الثنائية حين شيد تمثالا للزعيم سعد زغلول فى غرب المدينة فوضع أمام الزعيم وخلفه امرأتين جميلتين تعبران عن أن مصر كلها مع الزعيم: واحدة تطل على البحر بزى الفلاحات الحسناوات البهيات فى الدلتا، وواحدة تطل نحو الجنوب بزى نساء الصعيد ذوات الحسن الجسور والقد الممشوق.
يرتفع مسجد سيدى بشر بنحو 10 أمتار عن شاطئ البحر. وتفسير ذلك بسيط للغاية، لقد قام حى سيدى بشر ــ الذى يؤلف اليوم غابة أسمنتية ــ قبل أكثر من 50 سنة على منطقة من الغرود الرملية القديمة التى كان البحر قد دفعها إلى الداخل.
كانت هذه الكثبان الرملية تعلو خطا قديما من سلسلة من الحجر الجيرى لساحل تاريخى للبحر المتوسط. ولأن هذه المنطقة كانت قبل 100 سنة غير مأهولة تماما بالسكان فقد أقام عليها الاستعمار البريطانى معسكرا شهيرا لاستقبال اللاجئين الروس الذين فروا من الثورة الشيوعية والحرب الأهلية وسقوط القيصر فى أعقاب هزيمة روسيا فى الحرب العالمية الأولى.
كانت إنجلترا تعادى روسيا البلشفية، وتقدم الدعم لأنصار القيصرية المعادين للثورة الشيوعية، ومن ثم نقلت عدة آلاف منهم عبر الأسطول الإنجليزى إلى مصر وأقامت لهم معسكرات لاجئين.
تخبرنا الوثائق التى حللها وفسرها العالمان الكبيران جينادى جارياتشكين وفلاديمير بيلياكوف أن النظام الصحى الإنجليزى فى مصر كان بالغ الصرامة، ولأن المهاجرين الروس كانوا قد مروا بفترات صعبة من الحرب والهروب واللجوء والمجاعة وسفر شاق من موانئ البحر الأسود إلى بورسعيد والإسكندرية، فقد أقيمت لهم فى البداية معسكرات حجر صحى.
كانت سيدى بشر منطقة نائية جافة رملية، فى موقع بعيد عن الإسكندرية «الحقيقية» فى الغرب: إسكندرية المنشية وبحرى والفنار (القلعة) ورأس التين والجمرك.
لو صدقنا التغير المناخى المنذر بارتفاع السواحل وغرق المدن المنخفضة ومن بينها الإسكندرية فسيكون مسجد سيدى بشر هو آخر ما سيغرق فى المدينة.
انهيت التجوال فى سيدى بشر وقصدت التجوال التسكعى فى جنوب المدينة. بدأت بعبور شارع «محمد نجيب». فكرت فى الاسم مليا، هذا يعنى أن الاسم جاء فى فترة حديثة، فمحمد نجيب كان مغضوبا عليه ومحيت ذكراه ودوره فى عهد عبد الناصر ولسنوات طويلة بعده، الأرجح لم يطلق هذا الاسم إلا فى عقود قريبة، ربما فى عهد حسنى مبارك الذى شهد بداية رد الاعتبار لدور محمد نجيب.
ما إن تهبط مجددا مع شارع محمد نجيب إلا ويتقاطع مع طريق عرضى يحمل اسم «جمال عبد الناصر» فتكتمل ابتسامتك بالصراع السياسى الذى ترك أثره حتى على أسماء الشوارع. دلالة أسماء الشوارع هنا لا تحمل أية روائح مما يطلق عليه الأدباء والمؤرخون مسمى الإسكندرية «الكوزمبوليتان».
لا يوجد هنا أى شىء كوزمبوليتان من تنوع عرقى وإثنى ودينى ولونى، الذى ميز الإسكندرية فى نهاية القرن 19 والنصف الأول من القرن العشرين. فهذه المنطقة كانت فى الحقيقة «غير معمورة» بالثقافة السكندرية، ولن تجد فيها أية قصور ولا أبنية تاريخية ولا متاحف ولا أية علامات على تاريخ عمرانى سابق.
تأخذنا الأقدام إلى خط السكة الحديد للقطار الذى يتجه إلى شرق المدينة قاصدا أبو قير، ومن هناك يسافر الناس إلى إدكو ورشيد. يعتبر خط السكة الحديد فاصلا بين مستويين من نمو المدينة، فإلى الشمال الإسكندرية «المتوسطية» وإلى الجنوب الإسكندرية «الدلتاوية».
نقطة الاتصال بين الإسكندريـ«تين» ميدان مزدحم وسوق شعبى يسمى «فيكتوريا» نسبة إلى المدرسة الشهيرة فى هذا الموقع. يمكن أن تميز طريقة نطق اسم المدرسة والميدان وفق الخلفيات التى يتحدث بها الناس، فالمتعلمون ينطقونها «فيكتوريا» بمعنى النصر، والأغلبية تنطقها «فاكتوريا» وكأنه اسم مصنع أو ورشة.
عبور السكة الحديد من فيكتوريا إلى الجنوب يمر بك عبر شارع وثيق الصلة بالوقائع الجمهورية يسمى «الجلاء». يفضى بك الجلاء إلى شارع «جميلة بو حريد» المناضلة الجزائرية التى اتخذت رمزا لمقاومة الاحتلال الفرنسى للجزائر، وأخرج لها يوسف شاهين فيلما من تمثيل ماجدة وحصل به من موسكو على جائزة عظيمة فى سينما مقاومة الاستعمار، دون أن يكون يوسف شاهين أو ماجدة قد رأوا أرض الجزائر، ولن يسافر يوسف شاهين إلى الجزائر إلا بعد سنوات من إنتاج ذلك الفيلم.
بدأت أتصفح الشوارع فى الخط الواصل من فيكتوريا والجلاء وميدان السيوف و«أديب معقد» وصولا إلى الفلكى ومنه إلى العزب والنجوع الدلتاوية فعبرت «نجع خطاب» حتى وصلت عزبة «محسن».
فى عزبة محسن قابلت الشيخ رفعت بعد صلاة المغرب وسألته عن تاريخ تدفق السكان، ولأنه فى مثل عمرى، وولد هنا ويعرف التفاصيل فقد روى لى فصلا من ذكرياته عن وصول المهاجرين للعمل فى المصانع التى افتتحت فى الإسكندرية قبل 30 ــ 40 سنة.
كانت المصانع بلا مساكن للعمال، اندفع العمال إلى الأرض الزراعية وقدموا عروضا مغرية للفلاحين فى العزبة، وقع الفلاحون فى الإغواء المالى الرهيب، باعوا الأرض للمهاجرين الوافدين من البحيرة وكفر الشيخ والمنوفية والقاهرة مما تسبب فى ابتلاع الأرض الزراعية لصالح السكن والأبنية والغابات الخرسانية.
ضاعت عزبة محسن وأخواتها وخسرنا الأرض الزراعية ومصدر الغذاء وخسرنا المستقبل!
تعبت من التجوال!

عاطف معتمد الدكتور عاطف معتمد
التعليقات