ما الذى جعل الكاتب السودانى الكبير «الطيب صالح» يسمى روايته الشهيرة «موسم الهجرة إلى الشمال» بهذا الاسم؟
لقد كتب روايته منذ خمسين عاما، قبل حلول هذه الظاهرة المحزنة، والشائعة فى أيامنا هذه، إذ نسمع كل يوم عن قارب صغير أو كبير يغرق بركابه المصريين بالقرب من شواطئ إيطاليا أو اليونان، وهم يحاولون الوصول بأى طريقة غير قانونية إلى تلك البلاد الواقعة شمالى البحر المتوسط، هربا من البطالة والفقر فى الجنوب.
كانت آخر حوادث هذه الهجرة إلى الشمال ما نشرته صحيفة الشروق منذ أيام قليلة تحت عنوان «من قتيل مصرى فى مياه المتوسط إلى حبيبته: بحبك قوى، اوعى تنسى» وإلى جانب صورة فوتوغرافية نشرتها جريدة النيويورك تايمز وتتضمن صورة مكبرة لخطاب من مهاجر مصرى كتبه لحبيبته قبل وفاته، وعثرت عليه البحرية الإيطالية فى قوارب المهربين الذين ماتوا غرقا بالقرب من جزيرة صقلية، وقالت الجريدة إن الموتى «ظلوا حتى النهاية يتمسكون بحقائب أو أكياس بلاستيكية تحمل المتبقى من ممتلكاتهم الدنيوية». ويلاحظ من الرسالة أن كاتب رسالة الحب والوداع، تلقى تعليما سيئا فى مصر، إذ تظهر أخطاء فى كل الكلمات تقريبا، حتى فى كلمة «سلام» التى كتبها «سالم»، وإن كان قد رسم فى آخر الخطاب قلبا يشير إليه سهمان، أحدهما من حرف A، وهو فى الغالب أول حرف من اسم كاتب الرسالة، والآخر يشير إلى حرف R من اسم حبيبته، وإلى جواره كلمة «بحبك».
<<<
لم تكن هذه الظاهرة شائعة، ولا حتى معروفة منذ خمسين عاما، عندما كتب الطيب صالح روايته، فما الذى جعله يستخدم هذا الاسم، بل وأن يصف الهجرة إلى الشمال بأن لها «موسما»؟ إن الرواية تتضمن غرق بطلها وهو يسبح إلى الشمال، من قريته الفقيرة فى السودان، ولكن البطل نفسه لم يكن فقيرا، ولا كان قليل الحظ من التعليم، فلم يكن ذهابه إلى انجلترا فى مطلع شبابه هربا من الفقر والبطالة بل كان استجابة لجاذبية الحضارة الغربية، ولتحصيل المزيد من العلم الذى حقق منه الكثير حتى وصل إلى وظيفة مدرس فى جامعة لندن. مشكلة بطل الرواية إذن كانت مختلفة تماما عما نحن فيه الآن، نعم، كانت هناك فى الحالين الجاذبية الشديدة التى يشعر بها سكان الجنوب المتخلف نحو الشمال المتقدم، وفى الحالتين تنتهى قصة المهاجر نهاية مأساوية، بل وفى الحالتين تنتهى بالغرق. ولكن ما أشد الفارق بين الحالتين. الغرق فى حالة المهاجرين المعاصرين يحدث بسبب محاولة بائسة للوصول إلى الشمال بطريق غير قانونى، وفى مركب يحمل عددا أكبر مما يستطيع حمله من شباب لديه نفس هذه الرغبة فى الهرب من الفقر. أما فى حالة رواية الطيب صالح فالغرق يأتى نتيجة لقرار بالانتحار لاستحالة التوفيق بين ثقافتين، أو استحالة التخلص من جرثومة الحضارة التى نفذت إلى جسم رجل جنوبى لا يستطيع التخلص من آثار تقاليده وثقافة أمته.
إن اسم «موسم الهجرة إلى الشمال» يبدو وصفا أكثر ملاءمة بكثير لما نحن فيه الآن، مما كان الطيب صالح يصفه فى روايته، ومع ذلك فلابد أن الطيب صالح كان يرى فى الهجرة فى زمانه شيئا يشبه «الموسم» أيضا. والأرجح أنه كان يرى أن مشكلة التقاء الجنوب بالشمال، أو التقاء ثقافات ما كان يسمى بالعالم الثالث بالحضارة الغربية «تلك التى عبّر عنها قبله توفيق الحكيم ويحيى حقى وسهيل إدريس وآخرون» قد بلغت درجة يمكن معها اعتبارها ظاهرة، وهى ظاهرة لها جانب مأساوى هو ما حاول هؤلاء الكتّاب جميعا وصفه دون أن يجدوا له حلا.
<<<
قادنى التفكير فى هذين النوعين من الهجرة، إلى التفكير فى نوع ثالث، هوما يمكن تسميته «بالهجرة الداخلية»، ويمكن أيضا أن نلاحظ أن له هو الآخر موسما. ففى الفترات التى ينتشر فيها شعور عام بالإحباط، لأسباب سياسية أكثر منها أسباب اقتصادية أو ثقافية، يميل عدد كبير من المهتمين بالشأن العام إلى الانكماش داخل النفس، والنفور من الخوض فى الحديث «بل وحتى فى التفكير» فى المشاكل العامة، ومحاولة التعويض عن ذلك بالاهتمام بأمور شخصية أو عائلية «أو مجرد التظاهر بذلك» بدرجة أكبر من ذى قبل، أو بالاهتمام بحقب تاريخية قديمة، خاصة إذا كان فيها ما يمنح بعض العزاء عن إحباطات الحاضر. هذا الانكماش إلى داخل النفس هو ما يجعل وصف «الهجرة الداخلية» وصفا ملائما. ففى مثل هذه الحالة قد يفكر المرء أيضا فى الهجرة الخارجية ولكن يجد أن تغيير المكان لا يسعف كثيرا. صحيح أن مجرد البعد عن الوطن فى هذه الحالة قد يسمح للمرء بالنسيان وبالتفكير فى أمور أخرى لا تتعلق بما يجرى داخل الوطن، ولكن البعد المادى قد لا يكفى للنسيان، ومن ثم فحل المشكلة قد لا يمكن تحقيقه إلا «بالهجرة الداخلية».
أظن أن حالة كهذه أصابت قطاعا من المثقفين المصريين فى أعقاب هزيمة الثورة العرابية ومجئ الاحتلال الانجليزى فى 1882، مما قد يفهم من بعض كتابات ذلك العهد.
لقد بدا واضحا أن الانجليز لم يجيئوا لفترة عابرة، بل إنهم يزمعون البقاء فى مصر لفترة طويلة «ثبت بالفعل أنها بلغت 74 عاما»، كما بدا المصريون قليلى الحيلة فى محاولة التخلص من الاحتلال. ومن ثم لجأ بعض المثقفين ممن كانوا قد اشتركوا بالفعل فى الثورة العرابية «مثل الشيخ محمد عبده» إلى الانصراف إلى أمور أخرى بدت لهم أكثر فعالية فى تلك الظروف، كإصلاح الفكر الدينى أو نظام التعليم. لقد نجح بعض الزعماء الوطنيين، مثل مصطفى كامل وسعد زغلول، فى إخراج المصريين من هذه الحالة ولكن حالة مشابهة حلت بهم مرة أخرى فى ثلاثينيات القرن الماضى، ابتداء من مجئ حكومة اسماعيل صدقى الديكتاتورية، وتكرار عبث القصر الملكى والانجليز بالحياة الدستورية والنيابية.
ما شهدته أنا بعينى وعشته يوما بيوم، كانت الحالة التى أصابت المصريين فى أعقاب الهزيمة العسكرية فى 1967. لقد اشتد وقتها الشعور بالإحباط، فهاجر عدد من المصريين إلى الخارج، أكثر من أعداد المهاجرين المألوفة، فزاد عدد المصريين الذين استقروا فى لبنان، أو فى كندا والولايات المتحدة، وهاجر بعض المثقفين المعروفين إلى فرنسا حيث مارسوا نشاطهم الثقافى هناك. وزاد هذا الاتجاه «للهجرة إلى الخارج» بعد أن أصبح واضحا تحول مسار السياسة المصرية عن سياسة الستينيات الاشتراكية والقومية، فزاد عدد المثقفين المصريين الذين وجدوا ترحيبا من نظام صدام حسين فى العراق، وقنع أحمد بهاء الدين برئاسة تحرير مجلة ثقافية بالكويت، أما من بقى فى مصر فقد دخل بعضهم فى حالة «هجرة داخلية»، مصحوبة فى بعض الأحوال بالاكتئاب الشديد «مثل صلاح جاهين وصلاح عبد الصبور»، ولجأ بعضهم إلى نوع مختلف تماما من الكتابة «مثل يوسف إدريس»، أو امتنع تماما عن الكتابة، كما لجأ بعض الفنانين الموهوبين إلى التجارة «مثل كمال الطويل». كان لابد أن يصمد البعض الأقوى عددا، أو الأشد تصميما فيستمرون فى الكتابة السياسية، رغم كل الصعوبات «مثل فتحى رضوان وحلمى مراد»، ولكن حالة «الهجرة الداخلية» كانت الأكثر انتشارا.
أذكر أيضا أنه فى أعقاب هزيمة 1967، اشتد الاهتمام بالتاريخ المصرى، وبإحياء بعض جوانب التراث الثقافى، وكأن المصريين كانوا يحاولون إقناع أنفسهم بأن ما يحدث الآن ليس إلا كبوة قصيرة العمر فى تاريخ مجيد طويل. ولم يجد الممسكون بالسلطة وقتها بأسا من تشجيع هذا الاتجاه أملا «فيما أظن» فى أن ينجح فى صرف الأنظار، ولو جزئيا، عن التفكير فى المسئولين عن كارثة 1967.
اشتد الاهتمام إذن، فى 1969، بمرور ألف عام على إنشاء مدينة القاهرة، وتكونت فرق جديدة رائعة لإحياء التراث الموسيقى فى مصر، فأنشئت فرقة بعد أخرى للموسيقى العربية «مازلنا نجنى ثمارها حتى الآن».
<<<
أظن أننى لا أبعد عن الحقيقة إذا ذكرت أننى ألاحظ الآن بداية لمثل هذا الاتجاه للهجرة الداخلية من جانب عدد متزايد من المثقفين المصريين، بعد زحف حالة من الإحباط بسبب تكرار خيبة الأمل فى تحقيق آمال ثورة 25 يناير 2011. إننى لا أعبر عن مجرد شعور شخصى «إذ ألاحظ حولى كثيرا من الناس فى حالة مماثلة» عندما أقول إننى أحب قراءة الصحف اليومية الآن تزداد صعوبة على النفس، وكذلك مشاهدة الحوارات التليفزيونية. ثم ألاحظ تعدد حالات «الهجرة الداخلية» بين الكتاب المصريين. إننى أبحث عن كتّابى المفضلين فأجد أنهم إما قد امتنعوا تماما عن الكتابة، أوتحولوا تحولا شبه تام عن الكتابة السياسية، وأخذوا يتناولون موضوعات لا تمت بصلة لمشكلاتنا الأساسية الراهنة. الموهبة مازالت موجودة بلا شك، ولكنها هاجرت «هجرة داخلية».