بإلغاء دستور الأمة دستور سنة 1923، وبإصدار دستور جديد هو دستور سنة 1930. هُدم النظام الدستورى للبلد فى لحظة، ووضع مكانه نظام جديد بأمر جلالة الملك وتنفيذ أداته صدقى باشا؛ والأمم التى تحترم نفسها وتحترم القانون لا تعبث بدساتيرها بين آن وآخر بأوامر حكامها أو أفراد منها دون اكتراث بإرادة الأمة».
بهذه الكلمات لخص المؤرخ الراحل الدكتور محمد ضياء الدين الريس فى كتابه المهم «الدستور والاستقلال والثورة الوطنية 1935»، الحالة فى مصر فى أواخر سنة 1930.
جاء الدستور الجديد مرسخا للاستبداد وسالبا من الأمة مكتسباتها التى حققتها بعد نضال طويل بدأ منذ عام 1795، ولعل أسوأ ما كان فى ذلك الدستور، دستور فؤاد وصدقى، إنه عاد بمصر إلى الوراء كثيرا عندما جعل الدستور منحة من الملك لا عقدا بين الأمة والملك، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد بل كانت نصوص الدستور نفسها نكوصا وتراجعا عما حققه المصريون فى دستور 1923.
ويرصد المؤرخون الذين أرخوا لتلك الحقبة، وفى مقدمتهم: عبدالرحمن الرافعى الذى كان معاصرا للأحداث، والدكتور عبدالعظيم رمضان والدكتور ضياء الدين الريس، مثالب ذلك الدستور فى عدة نقاط، أولها أنه قيد المسئولية الوزارية، أى حق مجلس النواب فى طرح الثقة بالحكومة، وجعل ممارسة هذا الحق الذى يعد أساس أى نظام برلمانى سليم أمرا مستحيلا، وقد اقتبست كل الدساتير التى وضعت بعد انقلاب يوليو 52 هذا المنطق من إسماعيل باشا صدقى، ذلك المنطق الذى حول المجالس النيابية إلى مجالس منزوعة القوة.
وثانيها أن سلطة الملك فى حل البرلمان لم تعد مقيدة بتحديد موعد لإجراء الانتخابات الجديدة يتضمنه قرار الحل، كما لم يعد واجبا على الملك دعوة البرلمان لدورة انعقاد طارئ متى طلب ذلك أغلبية الأعضاء مثلما كان عليه الحال فى دستور 23، بل ترك الأمر كله لتقدير الملك، كما أنه جعل أغلبية أعضاء مجلس الشيوخ معينين بعد أن كانت أغلبيتهم من المنتخبين، مما أضعف سلطة البرلمان.
وثالثها أنه وسع من حقوق السلطة التنفيذية ومنحها حق التشريع طوال فترة غياب البرلمان والتى تمتد لسبعة أشهر، كما قيد من سلطات البرلمان فى مراقبة الميزانية ومنح الحكومة حق تعديلها دون الرجوع إلى البرلمان، بل حرم البرلمان من حق اقتراح القوانين المالية وقصر هذا الحق على الملك وحده! كما جعل للملك حق إهمال أى قانون يقره البرلمان، واعتبر الدستور الجديد أن عدم تصديق الملك على القانون لمدة شهرين يعتبر رفضا له، ولا يجوز للبرلمان النظر فيه مرة أخرى إلا بأغلبية ثلثى أعضاء المجلسين، وأعطى كذلك للملك وحده حق تعيين شيخ الأزهر والرؤساء الدينيين فى مصر، بعد أن كان هذا حقا للحكومة الحائزة على ثقة البرلمان المنتخب، أى حق من حقوق الأمة من خلال ممثليها.
أما أخطر التجاوزات فى دستور صدقى هى تقنينه للتعدى على الحريات العامة، عندما «دستر» تعطيل الصحف بقرار من محكمة الاستئناف، فى جلسة سرية! وحتى هذا النص الشاذ لم يلتزم به صدقى، فقد لجأ إلى تعطيل الصحف بالطرق الإدارية منذ بداية عهده وطواله.
واستكمالا لمقومات الاستبداد حل الملك جميع مجالس المديريات، وأصدرت حكومة صدقى قانونا جديدا للانتخابات ملحقا بالدستور، ألغى مبدأ الانتخاب المباشر، وجعل الانتخابات على مرحلتين، فى الأولى يختار الناخبون مجمع انتخابى، ثم يقوم أعضاء هذا المجمع بانتخاب البرلمان نيابة عن الناخبين، كما رفع القانون سن الناخب إلى 25 سنة، واشترط فى عضو المجمع الانتخابى شروطا مالية وتعليمية استبعد به معظم المواطنين، كما حرم جميع المشتغلين بالمهن الحرة من محامين وأطباء وصحفيين ومهندسين من خارج القاهرة! حق ترشيح أنفسهم لعضوية البرلمان.
وفى فبراير 1931 عدلت الحكومة قانون العقوبات لتستحدث نصوصا تعاقب على التعبير عن الرأى من خلال الصحافة، ومن تلك النصوص التى ما زالت آثارها قائمة إلى يومنا هذا، عقاب من ينشر أخبارا بشأن تحقيق جنائى قائم، ومن ينشر أمورا من شأنها التأثير فى القضاة أو رجال النيابة أو غيرهم من الموظفين المكلفين بالتحقيق أو التأثير فى الرأى العام!
وبعدها بأشهر قليلة عدلت قانون العقوبات مرة أخرى لتشدد العقوبات على «جرائم» النشر التى تقع عن الطريق الصحف وغيرها من طرق النشر، واستحدثت مصطلحات تحكمنا إلى يومنا هذا مثل «الإضرار بالمصلحة العامة» و«الإخلال بالنظام العام» و«التحريض على قلب نظام الحكومة» و«التحريض على كراهية النظام أو الازدراء به»، كما وضعت الحكومة قانونا جديدا للمطبوعات تضمن شروطا تعجيزية لإصدار الصحف.
وكان صدقى قد أكمل ديكور نظامه الجديد بتأسيس حزب يسانده مثلما فعل زيور باشا فى الانقلاب الدستورى سنة 1925 عندما أسس حزب الاتحاد، وسمى صدقى حزبه حزب الشعب زورا وبهتانا، فقد كان أبعد ما يكون عن الشعب، ويبدو أنها عادة المستبدين أن يسموا الأشياء بعكسها. وأخذت الإدارة تروج لهذا الحزب وتدعو الناس بمختلف وسائل الترغيب والترهيب والتوريط فى الانضمام له، مثلما حدث مع حزب الاتحاد من قبل ومع التنظيمات الحكومية التى جاءت منذ انقلاب يوليو من بعد.
هكذا تبلورت الأزمة التى لخصها المؤرخ الكبير محمد شفيق غربال بقوله: «إن ما حاوله صدقى باشا فى دستوره الجديد انتقاص من حقوق حصل عليها الشعب. وإنه من الطبيعى ومن المشروع أن يدافع الشعب عن تلك الحقوق. وحاول صدقى باشا أن يحمله على الإذعان. فكانت المعركة الدستورية الكبرى. انتصر الشعب فى النهاية، وعاد له دستوره الأول، فعدنا إلى ما كنا عليه. وذهبت جهود صدقى باشا ومواهبه هباء فى هباء